يكاد الشك يصير يقيناً.. الحرب الباردة الثانية مستمرة

حجم الخط

بقلم جميل مطر

 

 

قرأت خطاب الرئيس الصيني شي الذي ألقاه قبل أسبوعين في إحدى لجان قيادة الحزب الشيوعي الصيني. يومها ازدادت قناعتي بأن الصين اتخذت قرارها بأن تقابل التصعيد الأميركي في المنافسة بينهما بتصعيد ليس أقل حزماً. ثم تابعت بالتركيز على السلوك الرسمي للدولتين تجاه بعضهما البعض. رحت أتحسس مواقع التصعيد في التعامل والتغيير في مستوى الخطاب السياسي. لفت انتباهي بشكل خاص النشاط المحموم للسيد مايك بومبيو، متنقلاً من بلد في أوروبا إلى بلد في أعماق إفريقيا إلى بلد في الخليج حاملاً رسائل دبلوماسية لكبار المسؤولين في دول عديدة. لم يقل نصيب التحذير الأميركي من طموحات الصين في هذه الرسائل عن نصيب الترويج والابتزاز للتوقيع على اتفاقات تفرض على دول عربية التزامات وعلاقات مع إسرائيل.
***
أكتب هذه السطور قبل إجراء انتخابات الرئاسة الأميركية بيوم واحد. غداً ينتخبون وبعد أيام ربما يكون لدينا اسم الرئيس الجديد للولايات المتحدة أو تتمدد رئاسة ترامب لولاية ثانية.
وقبل نشر هذا المقال. أظن أن الدولة الأعمق في الولايات المتحدة لن تواصل الصمت على تجاوزات السياسيين، أظن أنها سوف تبلغ المرشحين بطريقة أو أخرى أنها لن تسمح بتلاعب خطير أو التدخل بوسائل غير عادية لتغيير النتائج أو استخدام القوة للتأثير في إرادة الناخبين أثناء عملية الانتخاب أو بعدها.
***
هذه المقدمة كانت ضرورية لإبراز خطورة ما هدد به الرئيس ترامب وربما خطط بالفعل لتنفيذه ولم يخفه عن الرأي العام الأميركي، وفى الوقت نفسه لم يخفه على حلفاء أميركا وخصومها، خاصة على الصين وروسيا. أتصور أن دولاً كثيرة ومؤسسات أميركية بعينها ما كانت لتقبل بوقوع فوضى تهدد أمن واستقرار أميركا، وتزيد من سرعة انحدار وزن القوة الأميركية، وتؤثر بالتحديد في موقع أميركا في المنافسة المحتدمة بالفعل بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. هناك أسباب أخرى تدفعني لتجاوز بعض السياقات الراهنة للدفاع عن رأي له وجاهته. أعرض خلاصة هذا الرأي في الكلمات القليلة التالية: لن يغير فوز جو بايدن أو دونالد ترامب بالانتخابات في القرار الذي اتخذته بالفعل القيادة الحاكمة في الصين والقاضي بتصعيد وتسريع خطوات المنافسة المشتعلة بين الصين والولايات المتحدة، لا عودة إلى الوراء. لا عودة عن حرب باردة بين الدولتين الأعظم سواء تغيرت وجوه القيادة السياسية الأميركية أم بقيت. لا شك أن لأصحاب هذا الرأي أسبابهم وأفكارهم ومنها على سبيل المثال وليس الحصر الأسباب والأفكار التالية، هذه وأكثر منها عبرت عنه مواقع أميركية وأوروبية للبحث والعصف الذهني خلال الأسابيع القليلة الماضية:
أولاً: لا جدال، ونحن شهود، على أن الطرفين، الأميركي والصيني، بذلا جهداً خارقاً خلال العامين الأخيرين وتكلفا ثروات هائلة لتقريب المسافة التي تفصل كلاً منهما عن موقع بعينه في صف قادة العالم، وفى الوقت نفسه إعادة النظر في جدوى كل الوسائل التي استخدمها الطرفان لتوسيع أو تضييق الفجوة الفاصلة بينهما خلال سعيهما نحو القمة. المؤكد لهما ولنا أنهما قطعا في هذا السعي أكثر من نصف الطريق ولا جدوى من الحديث عن التوقف أو الرجوع إلى الوراء. لا يستقيم بأي حال وتحت أي ظرف أن يتخاذل الآن قادة الدولتين بعد حملات إعلامية رفعت توقعات الشعبين، توقعات صينية نحو تحقيق حلم كثيراً ما راود قادة الصين ألا وهو احتلال موقع الدولة القائد في نظام عالمي جديد. أو توقعات أميركية نحو تجديد حلم الصمود في وجه طموحات دول منافسة ونواياها وفى مقدمتها الصعود للقمة.
ثانياً، تتشابه الدولتان حيثما تبدوان مختلفتين شديد الاختلاف. يجنح محللون تحت الاقتناع بأن الصين دولة يحكمها نظام سياسي شمولي إلي تصور أنه لا مكان في الصين لقوى أو جماعات ضغط كالموجودة في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة. وجدت هذه الجماعات وإن في أشكال مختلفة في حياة الرئيس ماو تسي تونغ ولعبت أدواراً مهمة في صياغة مسيرة الثورة في عديد المراحل، خاصة مرحلة الثورة الثقافية. كثيراً ما بدا لي مثيراً للغاية متابعة حركة رئيس اللجنة المركزية للحزب خلال محاولته الخروج بتوافق عام بين مختلف جماعات الضغط على قضية أو أخرى. بل وهناك اختلافات في الرؤى يكتشفها المدققون وما أكثرهم الآن. هؤلاء بأعدادهم الراهنة وكفاءة بعضهم يذكرونني بخبراء عرفوا بأخصائيي الكرملين في زمن الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي.
سمعت أنه بين هؤلاء المدققين على الجانب الصيني من ينصح قادته بأن الصين يجب أن تسرع خطى الصعود قبل أن تكتمل قوة وكفاءة نظرائهم على الجانب الأميركي. أمثال هؤلاء خلال الحرب الباردة أقنعوا صناع القرار الأميركي وآخرهم الرئيس رونالد ريغان بضرورة التوسع في المنافسة مع موسكو وتصعيدها في مجال أسلحة وسباقات الفضاء، باعتقاد قو ومحق أنه مجال لو انغمست فيه القيادة السوفياتية فستخفق حتماً وتكسب واشنطن السباق. أتيت بهذا المثال بعد أن تأكدت أن في أميركا آراء وجماعات فكرية مماثلة تشير إلى صناع القرار الأميركي بتسريع خطط مواجهة صعود الصين. حججهم كثير منها مثلاً أن الخصم الصيني دخل مبكراً مرحلة شيخوخة نتيجة السياسات السكانية التي انتهجها في المراحل الأولى من خطة إعادة بناء الصين. قريباً جداً، حسب ما يحسبون، سوف تجد الصين نفسها أمام منافس أميركي مجرب ومتجدد الشباب والطموح وستكون له الغلبة في السباق المنشود كما كانت له الغلبة في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي.
ثالثاً: كثيرون على هذا الجانب أو ذاك يعطون المنحى الثقافي في السباق أهمية خاصة. هذا السباق أو الصراع أو التنافس هو الأول من نوعه، هذا إذا استبعدنا المحاولتين البائستين من جانب اليابان لتفرض نفسها على مجتمع الدول المهيمنة، مرة مع روسيا وانتصرت ومرة مع الغرب بأسره وانهزمت. لم يغفر الغرب لليابان فعلتها فكان عقابه لها شديداً، اعتبر أن ما فعلته اليابان كان تجربة أولى نحو افتعال «صدام حضاري» هدفه إخراج الغرب من آسيا. منذ تلك المرة عاش الجميع، آسيويون وغربيون ينتظرون الصدام الأكبر. كم سمعنا وقرأنا في الغرب عن مصير البشر في مستقبل تستيقظ فيه الصين.
ما لم نقدره حتى الآن حق قدره هو الوزن الحقيقي للثورة الصينية وما خلفته من آثار في مختلف أقاليم القارة الآسيوية. يكفي أن نقارن بين نظرة الآسيويين إلى التجربة السياسية الصينية والتجربة السياسية الهندية، إعجاب بالأولى ولا مبالاة بالثانية. لاحظ أن الهند وقد بنت سمعتها بين الأمم وعبر تاريخها منذ الاستقلال على عقيدة غربية ومؤسسات حكم وإدارة غربية، فجأة انتبهت فراحت تستعيد فلسفاتها الآسيوية وتبث الروح في تقاليد الهندوسية ديانة وفكراً وسياسة وبطولات ونساء وموسيقى. إنه السباق الأكبر القادم في القارة، أيهما أصلح لآسيا: ثقافة الغرب أم ثقافات هجين أم ثقافاتها الآسيوية. وهل تستمر أسس ثقافة الغرب في «التضعضع» أم يتوقف الانحدار وتنهض من جديد؟ أسئلة لن تجد إجابة شافية إلا من قوم هم الأقدر والأسرع في التأقلم مع زحف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واستيعاب قواعد وسلوكيات عصر جديد.
رابعاً: يعرب علماء سياسة غربيون عن اعتقاد بدأ يسود ويقضى بأن بعض حلفاء أميركا فقدوا الثقة في قدرة الولايات المتحدة على قيادة معسكر الغرب في المستقبل. تكاد خطابات أمين عام حلف الناتو تشي بأن هذه المقولة لها ما يبررها على أرض الواقع. في رأى الكثيرين أن ترامب وهو «كبير الحلف» مسؤول إلى حد كبير. لم يتدخل في حل الخلافات الثنائية بين دول الحلف بل أضاف إلى الشقاقات الأوروبية أسباباً إضافية وتوترات نتيجة استمرار هجومه على الحلف وأعضائه. هنا كما في قضايا أخرى احتار الأوروبيون، والآسيويون أيضاً والروس كذلك في الإجابة عن سؤال محوري: هل أميركا الآن، وبقياداتها السياسية الراهنة، فاقدة القدرة على التأثير لدوافع هيكلية أم نتيجة منطقية لتصرفات الرئيس ترامب وسياساته الخارجية؟ عدد من مفكري آسيا، خاصة من سنغافورة، يعتقدون أن الطبقة السياسية الأميركية أصابها ما أصاب قادة الإمبراطوريات التاريخية في مراحل نهاياتها.
خامساً: في كل الأحوال، وأخذاً في الاعتبار جميع الإجابات والمواقف، يكاد يكون من المسلم به أن الوقت تأخر، فالصين تمسكنت حتى بالفعل تمكنت. الشهادة المقنعة في هذا الشأن هو فيما سجله جفري فيلتمان المدير السابق للإدارة السياسية في الأمم المتحدة والسفير الأميركي الأسبق لدى لبنان في مقال نشر له أخيراً. يتضمن المقال معلومات مهمة عن حجم ونوع التغيير في النظام الدولي الذي تسعى الصين لتحقيقه. قدم مثالاً عما يحدث الآن في التعيينات للوظائف الأساسية في المنظمة الدولية ووكالاتها المتخصصة من ناحية وفى سنّ وتسريب قواعد جديدة للسلوك ومبادئ العمل الدولي من ناحية أخرى.
***
يحدث ما يحدث في أميركا عامة وفى البيت الأبيض خاصة بعد إعلان النتائج، سوف تتغير أمور كثيرة أو قليلة، ولكن يكاد يبقى في حكم اليقين أن حرب أميركا الباردة مع الصين سوف تستأنف على الفور.