التعليم المهني والتقني.... بديل وخيار إستراتيجي

حجم الخط

بقلم عقل أبو قرع

 

 

في دول تقع ضمن المراتب العشر الأولى في أقوى الاقتصادات في العالم، مثل ألمانيا واليابان على سبيل المثال، يتجه غالبية الطلاب الذين ينهون المدرسة أو حتى خلال المدرسة إلى التعليم المهني بأنواعه المختلفة. التعليم ذو المخرجات التي يحتاجها وبل يبحث عنها المجتمع، وبالأخص القطاعات الإنتاجية المتنوعة في الزراعة والصناعة والخدمات، التي تلبي احتياجات الناس المستهلكين المحليين، وتشارك في عملية التصدير، وبالتالي تساهم في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وبل تعتبر هذه الأيادي المهنية المدربة من العوامل الأساسية التي تحافظ على استدامة النمو الاقتصادي وعلى قوة الاقتصاد بمؤشراتها المختلفة، وهي من أهم مؤشرات قوة الدول والمجتمعات.
وفي الفترة الأخيرة كان هناك اقتراح من رئيس الوزراء أو من الحكومة بالتوجه لإنشاء جامعة متخصصة في التعليم أو التدريب المهني في هذا الوقت بالحساس، حيث يتصاعد فيه الجدل بحدة حول جدوى الذهاب إلى مقاعد وتخصصات التعليم العالي الكلاسيكية في بلادنا. ويأتي ذلك في ظل عدم حدوث أي تغيير جذري في فلسفة ومفهوم ونوعية التعليم وبالأخص التعليم العالي، وكذلك في ظل الأرقام المرعبة حول نسب البطالة عند خريجي التعليم العالي، وفي نفس الوقت ارتفاع تكاليف التعليم العالي وبالأخص في الظروف الحالية، والأهم كذلك تواصل وجود تخصصات مكررة وكلاسيكية، بات خريجوها في انفصام عن سوق العمل عندنا واحتياجاته، وباتت احتياجات المجتمع بعيدة كل البعد عن مخرجاتها.  
ومن دون شك أن هناك اهتماماً متزايداً في الفترة الأخيرة في بلادنا، سواء من قبل الجهات الرسمية أو من قبل الرأي العام بالدعوة إلى التوجه نحو التعليم المهني، أو التعليم التقني، أو بالأدق التعليم غير الأكاديمي التقليدي الكلاسيكي، أي ليس التعليم الذي اعتدنا عليه في الجامعات والكليات المختلفة، ورغم عدم وضوح وجود خطة إستراتيجية بعيدة المدى تتعامل مع التعليم المهني بشكل مستدام، أي بشكل يصبح التعليم المهني يشكل جزءاً أساسياً من نظام التعليم في بلادنا، أي ليس مرتبطاً بمشروع هنا أو برنامج هناك أو توفر أموال من هذه الجهة المانحة أو تلك، رغم ذلك فإن الاهتمام بالتعليم المهني، وبالأخص في أوضاع أو في ظروف مثل ظروف بلادنا، هي ظاهرة إيجابية تتطلب الدعم والتشجيع، سواء من ناحية النوعية أو الكمية، ولكي تصبح جزءاً أساسياً من إستراتيجية التعليم في بلادنا، لا تتغير بتغير الأشخاص أو بتغير أولويات وبرامج الدعم والمنح.
والتعليم المهني يرتبط بشكل مباشر بآفاق العمل والتشغيل ونسب البطالة، وفي بلادنا تبلغ نسبة البطالة وحسب الإحصاءات الحديثة حوالى 24% من القوى العاملة، وتصل هذه النسبة معدلات أعلى بكثير عند الخريجين الجامعيين، وقد تصل إلى حوالى 80% عند الخريجين الجدد في بعض التخصصات المعيّنة، وهذا الوضع مأساوي بكل معنى الكلمة، مأساوي للخريجين ولعائلاتهم التي استثمرت فيهم، وللوزارات المعنية بالتعليم العالي والتخطيط والعمل والاقتصاد وما إلى ذلك، وكذلك هو وضع مأساوي للمجتمع الذي يعتمد من أجل النمو والتقدم والتنمية على استثمار هذه الأجيال المتعلمة والمتدربة، من أجل مواصلة النمو والإنتاج.
ومن المعروف أن عشرات الآلاف من الطلبة الجدد يلتحقون بمؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات كل عام، خاصة أن جزءاً كبيراً من هؤلاء الطلبة يلتحقون بتخصصات مكررة في هذه المؤسسات، وهم يعرفون أن فرص إيجاد عمل في هذه التخصصات ضئيلة أو معدومة، وتعرف كذلك الجامعات والوزارة أن المجتمع الفلسطيني قد أصبح مشبعاً أو وصل إلى درجة فوق الإشباع في هذه التخصصات وبالتالي لا حاجة لها، أو على الأقل لا حاجة لها في كل الجامعات، وأن بقاءها أصبح عالة على المجتمع ويعكس سوء التخطيط أو الإدارة من قبل الجامعات والجهات المسؤولة، وكذلك يظهر عدم الاهتمام بمستقبل الخريجين وبحاجات المجتمع المختلفة.
وفي ظل هذا الوضع، تتجلى أهمية التعليم المهني والتقني، أو التعليم غير الجامعي والذي هو ربما أهم، وسوف يكون أهم من التعليم الجامعي التقليدي في بلادنا، والذي تستثمر فيه الدول المتقدمة الجزء الأكبر من الميزانية ومن الخطط الإستراتيجية، والذي يقبل عليه الكثير في هذه الدول، ورغم الاهتمام المتزايد في التعليم المهني عندنا، إلا أن القليل قد تم على الصعيد العملي المستدام، من أجل تشجيع الإقبال على هذا التعليم أو خلق الفرص والإمكانيات والحوافز من أجل توجه الطلبة نحوه، ومن ثم ربطه وبشكل إستراتيجي، سواء من حيث الكم أو النوع مع احتياجات المجتمع ومع خطط الحكومة السنوية.
وللسير في هذا الاتجاه، فإن ذلك يتطلب سياسات وقوانين وأنظمة من أجل زيادة الإقبال على هذا التعليم، وهذه القوانين من المفترض أن تحدد الأسس ومن ثم الحوافز من أجل التوجه إلى هذا التعليم، وهذا يتطلب إيجاد تخصصات متقدمة ومحترمة وتساير التقدم المتواصل في هذا المجال، وتساهم في تقدم المجتمع كما ساهمت في تقدم مجتمعات أخرى، وليس فقط تخصصات اعتاد الناس عليها خلال عشرات السنوات الماضية، وهذا يتطلب كذلك توفير الإمكانيات من مختبرات ومشاغل وكوادر بشرية، ويتطلب زيادة الوعي عند الناس لتغيير نظرتهم إلى التعليم المهني والتقني وكأنه درجة ثانية بعد التعليم الجامعي، وهذا يتطلب الشراكة الإستراتيجية مع القطاع الخاص الذي لا يتقدم كما يتم في المجتمعات الأخرى من دون الدعم والاعتماد على مخرجات هذا التعليم، والذي من دونه لا يمكن التعامل وبشكل جدي مع قضية البطالة في بلادنا.
وفي دول متقدمة تكنولوجياً واقتصادياً وصناعياً ولا تعاني من البطالة وتداعياتها، وعلى سبيل المثال ألمانيا، يقبل غالبية الطلبة على التعليم المهني والتقني من دون حساسية أو شعور بأنه تعليم من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتستثمر هذه الدول والقطاع الخاص فيه، وتتسابق الهيئات الصناعية والشركات على خريجيه، ويجد الخريجون فرص عمل، ولا تبلغ نسب البطالة عند الخريجين تلك النسب التي تنطبق على خريجي التعليم العالي في بلادنا، التي على ما يبدو سوف تستمر حتى إيجاد إستراتيجية وطنية، يمكن تطبيقها عملياً، للإقبال أكثر وللاستثمار أكثر وبشكل مستدام في التعليم المهني والتقني، من أجل أن يصبح الإقبال على التعليم المهني بديلاً وخياراً إستراتيجياً، بعيداً عن التعليم التقليدي الذي اعتدنا عليه، والذي أصبح من دون جدوى في مجالات عديدة.