الشعب الفلسطيني هو صانع التغيير الأول

حجم الخط

بقلم: د. مصطفى البرغوثي

 

لاشك أن الرئيس الأمريكي الذي هزم في الانتخابات ترامب تصرف مثل أزعر أراد إعادة شريعة الغاب كبديل للقانون الدولي ، وسقوطه مهم؛ لأنه كان أسوأ رئيس في العصر الحديث، وشكل خطرًا على شعوب العالم بأسره وليس على شعبنا فقط.

لكن ذهاب ترامب و نجاح جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لن يعني اختفاء صفقة القرن ومخاطرها على القضية الفلسطينية، لأن صاحب صفقة القرن الحقيقي هو نتنياهو والحركة الصهيونية العنصرية أما إدارة ترامب فكانت مجرد غلاف لها..

وقد بدأ نتنياهو من الآن محاولة إدخال أفكار وأهداف صفقة القرن كمشروع لتصفية القضية الفلسطينية وفرض التطبيع إلى الادارة الديمقراطية الجديدة بما في ذلك الترويج لضم المستعمرات الاستيطانية تحت عنوان تبادل الأراضي.

ويجب أن لا ننسى أن بايدن أكد عزمه ابقاء السفارة الامريكية في القدس، ولم نسمع بعد موقفا أمريكيا حازما ضد الاستعمار الاستيطاني الذي يمثل ضما تدريجيا للأراضي المحتلة ولا ضد نظام الأبرتهايد الإسرائيلي الأسوأ في تاريخ البشرية، وهو أسوأ بكثير من نظام الأبرتهايد الذي عارضه بايدن في جنوب إفريقيا.

وأخطر ما يمكن أن نواجهه هو استبدال الضم الفعلي و الفوري في صفقة القرن بالضم التدريجي عبر الإستعمار الإستيطاني على الأرض، و العودة إلى نفق المفاوضات العقيمة و استبدال الحل والسلام الحقيق بعملية السلام التي لا تنتهي..

المراهنة بجب أن لا تكون على من سيكون في الادارة الامريكية أو على العودة إلى نهج المفاوضات السابق والوهم بأن الولايات المتحدة تستطيع أن تكون راعيا نزيها لعملية سلام،

، بل على ما نستطيع نحن كفلسطينيين ان نفعله على ارض الواقع لتغيير ميزان القوى وتحقيق الوحدة الوطنية واستعادة ثقة الشعب بانتخابات حرة و ديمقراطية.

الرهان يجب أن يكون على شعبنا، ونضالنا، و حلفائنا الحقيقيين من الحركات السياسية والاجتماعية المناضلة ضد الظلم و العنصرية.

هناك ترابط حتمي بين مهمة التصدي للاحتلال، ومخططات صفقة القرن التصفوية، و نظام الأبرتهايد الإسرائيلي، وبين ضرورة معالجة الأزمة السياسية الفلسطينية الداخلية.

كما أن هناك ترابطا وثيقا بين المؤامرة الإسرائيلية ، وبين ما يمارسه حكام إسرائيل من ضغوط، وجهود لعرقلة حل المشاكل الداخلية الفلسطينية، باعتبار إستمرارها من أهم أسباب ضعف الجانب الفلسطيني في الصراع المحتدم.

أبرز معالم الأزمة الداخلية، هي حالة الإنقسام، والتي تطورت من اختلاف في الرؤى والبرامج السياسية وأشكال الكفاح، إلى حالة انقسام عميق تُوج بصراع على السلطة وانقسامها إلى سلطتين مع أن كلتيهما تعيشان تحت الاحتلال بشكل أو بآخر.

غير أن الإنقسام ليس سوى أحد مظاهر الأزمة الداخلية.

ومن المظاهر الأخرى المهمة، تدهور البنيان السياسي الداخلي، وإختفاء ما تم تحقيقه من مؤسسات ديمقراطية، وصولا إلى تلاشي مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بغياب الإنتخابات منذ عام 2006، وحل المجلس التشريعي، وفقدان السلطة القضائية لإستقلاليتها، مع تكريس منظومة حكم الحزب الواحد.

المظهر الثالث بالغ الأهمية، عدم التوافق حتى الآن على إستراتيجية وطنية موحدة، تتجاوز ما فشل في الماضي، بما في ذلك اتفاق أوسلو، والمراهنة على حل وسط مع الحركة الصهيونية عبر المفاوضات، أو الإستمرار في بناء الآمال على تدخلات دولية، كالمؤتمر الدولي وغيره في ظل تقاعس المجتمع الدولي عن فرض أي ضغوط حقيقية على إسرائيل.

ولا يمكن للإستراتيجية المطلوبة أن تنجح ما لم تُبنى على رؤية خلاقة جديدة، تأخذ في الاعتبار كل ما جرى من تغيرات على أرض فلسطين وفي المنطقة، و ما لم تكن حاسمة في كفاحيتها، وفي رفضها لكل مشاريع الاستسلام والتصفية، وما لم تتحلى بالقدرة على بعث الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني، وخاصة لدى الأجيال الشابة.

لا يمكن تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني، وإسقاط صفقة القرن، التي تمثل المشروع الصهيوني المتواصل، بغض النظر عن سقوط ترامب و نجاح بايدن في الانتخابات الأميركية، دون بناء جبهة وطنية فلسطينية موحدة، عبر تشكيل قيادة وطنية موحدة تكون مسؤولة عن القرارات الكفاحية والسياسية.

ولكن الجبهة الوطنية لن تكتسب القوة المطلوبة ما لم تتوحد مع الشعب الفلسطيني نفسه، بدل أن تقتصر على توافقات القوى الفلسطينية المتنافسة، وهذه الوحدة مع الشعب لن تتحقق ما لم يتم إجراء انتخابات ديمقراطية حرة، ليس فقط للمجلس التشريعي الفلسطيني والرئاسة، بل والمجلس الوطني الفلسطيني نفسه.

ولن يؤخذ أمر الإنتخابات على محمل الجد، ما لم تُشكل حكومة وحدة وطنية مؤقته تباشر فورا في إنهاء الإنقسام، ومعالجة آثاره، وتزيل أي شكل للتمييز بين الفلسطينيين، وتعد لإنتخابات ديمقراطية حقيقية، يمكن أن تتحول كذلك إلى معركة مقاومة شعبية ضد الاحتلال الذي سيحاول منع إجرائها بالتأكيد، خاصة في القدس، وربما في مناطق أخرى.

وفي هذا الإطار، لا بد من مراجعة نقدية وخلاقة، لتجارب المقاومة الشعبية التي بدأت بزخم كبير، رأينا مظاهره في قرى المقاومة، وسفن كسر الحصار على غزة، وهبة القدس ضد بوابات نتنياهو، ومسيرات العودة وكسر الحصار، ثم ضعفت بفعل إصرار بعض الأطراف على احتوائها في أطر رسمية.

هذه المراجعة لا بد أن تقود إلى تفعيل المقاومة دفاعا عن مصالح الناس الملموسة، المتضررة من مصادرة الأراضي، وسلب المياه، والحرمان من الحقوق في الخدمات الصحية والتعليمية اللائقة، ومن تفاقم الكساد الاقتصادي و البطالة الناجمة عن الحصار والتجزئة التي يفرضها نظام الأبرتهايد الإسرائيلي.

ولعل أهم المهمات التي يجب أن تتولاها القوى السياسية، بما في ذلك الحركات المجتمعية الناشئة، بناء الوعي الجامع بما يسببه نظام الأبرتهايد الإسرائيلي والتعصب اليهودي من أضرار بحياة ومصالح الفلسطينيين، وتعرية الأكاذيب حول التحسين الاقتصادي الذي يمكن ان تجلبه عبودية صفقة القرن.

ولكي تنجح حركات المقاومة الشعبية في تغيير ميزان القوى فإنها ملزمة بتصعيد حركة المقاطعة وفرض العقوبات على المنظومة الإسرائيلية، وحركة المقاطعة الشعبية هي الرد الأمثل على عمليات التطبيع الجارية والتي تصاعدت لتصبح شريكة لإسرائيل في خرق القانون الدولي، ولم يتورع بعض أنصارها على شن هجمات بذيئة ضد الشعب الفلسطيني، ضحية الاحتلال، وضحية التطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية.

هناك عاملان حاسمان في تقرير مستقبل فلسطين، الأول بقاء الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، رغم كل التنكيل والتضيق والخنق السياسي والإقتصادي.

فهذا الوجود البشري الذي يفوق بقليل الوجود اليهودي الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية، هو الفشل الأكبر للحركة الصهيونية، وهو العقبة الكبرى التي تقف أمامها في محاولاتها تهويد كل فلسطين.

أما العامل الحاسم الثاني فهو جعل هذا الوجود البشري وجودا مقاوما، وإفشال مخطط صفقة القرن بجعله وجودا مستكينا، محبطا، ويائسا من الإيمان بالقدرة على التغيير.

قد تنجح إسرائيل في بناء مزيد من المستعمرات الإستيطانية، وربما ينجح الابتزاز والضغوط والإغراءات الإسرائيلية الخادعة، في جر أنظمة جديدة للتطبيع مع إسرائيل، وما من شك أن القمع والتنكيل ضد الشعب الفلسطيني سيستمر، وأن عمليات تخريب جهود إنهاء الانقسام وتوحيد الصف الوطني ستتواصل.

لكن كل ذلك، لن يحسم الصراع ما دام هناك إصرار شعبي فلسطيني على رفض عبودية وذل الإحتلال، والتمييز العنصري.

والإصرار وحده، لن يغير الواقع ما لم يترجم إلى أفعال ملموسة تخرج الفلسطينيين من نفق المراهنات الخاطئة، وتعالج الأزمة السياسية الداخلية، بتبني رؤية إستراتيجية كفاحية جديدة تؤمن بأن الشعب الفلسطيني هو صانع التغيير الأول.