صعود وأفول الحضارة العربية الإسلامية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

الحضارة في اللغة هي عكس البداوة، وهي نظام اجتماعي سياسي يمكّن الإنسان من زيادة إنتاجه الثقافي، والحضارة مرتبطة بالكتابة حصراً، ولذلك لا نطلق على الشعوب البدائية صفة حضارة.. فالحضارة تتكون من مكونات مادية ومعنوية؛ أهمها: الأرض، التاريخ، النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الدين، الثقافة، العلوم، الفنون، المعمار، الأخلاق، وإذا حدث اختلال بالميزان بين المكونات المادية والروحية تختل الحضارة، والأخلاق هي التي توازنها، وتحقق التجانس بينها.
الحضارة الإنسانية الحالية ساهمت فيها وأنتجتها كل الشعوب قديما وحديثا؛ في عصور ما قبل التاريخ تحققت أهم المنجزات التي بنيت عليها الحضارات اللاحقة: اكتشاف اللغة، والنار، والبيت، والأدوات، والموسيقى.. وهي منجزات بشرية لا تخص شعبا معينا.. وفي العصور القديمة المتقدمة اهتدى الإنسان للزراعة، والأديان، والأساطير، واخترع الكتابة، وصهر المعادن، وصنع العجلة، والقارب، والمحراث، والإبرة، وأنتج الأسرة والقبيلة..
وبما أن الحضارات تتعاقب وتراكم إنجازاتها؛ قسّم «خزعل الماجدي» العصور التاريخية إلى ثلاث حقب رئيسة متتالية: القديمة والوسطى والحديثة، ولكل مرحلة سماتها ومحركها؛ القديمة كانت ذات طابع قومي، وظهرت فيها الأديان التعددية، وكانت محركها، بالإضافة للمثيولوجيا والحروب.
في الوسطى ظهرت الأديان التوحيدية وصارت هي المحرك، وصارت أكثر شمولية.
الحضارة الحديثة أصبحت محركاتها الطاقة والتكنولوجيا والعلوم، وهي ذات صبغة مادية، بدأت بعصر النهضة، واستمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت تظهر مؤشرات الانتقال إلى عصر العولمة، وهي في طريقها لتتحول من حضارة حديثة إلى مدنية حديثة تشمل العالم كله، وتصبح أكثر أخلاقية، وهذه المدنية ستستوعب الثقافات الخاصة بالشعوب، ولن تلغيها كليا.
وبقول آخر: مفهوم الحضارة نفسه توقف الآن، لصالح حضارات إنسانية متعايشة تسمى الحضارة الإنسانية، أو المدنية الشاملة (Global Civilization)، أي أنّ زمن سيطرة حضارة معينة على محيطها الجغرافي وهيمنتها عليه ثقافيا، قد ولى، فقديما كانت توجد في المرحلة التاريخية الواحدة حضارة واحدة أو اثنتان، وبعد أن تتراجع تظهر على أنقاضها حضارة جديدة، وهكذا، اليوم بدأت الحضارات تنصهر وتنسكب في سلة الحضارة الإنسانية (التي من الخطأ تسميتها الحضارة الغربية)، ففي هذه الحضارة أثر من كل الحضارات السابقة، وهنا ستعمل كل دولة على الاندماج في هذه المدنية.. وستشهد مزيداً من انزياحات وتراجع المركز الغربي لتلك المدنية.
سمات هذه المدنية: اقتصاد معولم، ثورة الاتصالات، تكنولوجيا متطورة، صناعات عالمية، سوق عالمي مفتوح، شركات عابرة للقارات. وسيكون للأديان دور في إحداث توازن روحي وأخلاقي مع الجانب المادي.. ولكن هذا الدور لن يقتصر على الأديان، فالأخلاق والقيم المجتمعية تنتجها أيضا القوانين والأعراف والضوابط المدنية.
وضع الماجدي مجموعة من المشكلات والحلول لعناصر الحضارة الإنسانية الحالية، ففي العنصر السياسي تكمن المشكلة في وجود الأنظمة الثيوقراطية أو الدكتاتورية أو العشائرية (تأليه وتقديس السلطة المستبدة، وسحق الفردانية)، والحل في تبني الديمقراطية التعددية ودولة المؤسسات.
ومشكلة العنصر الثقافي تكمن في تابعية الثقافة للأيديولوجية السياسية أو الدينية، والحل يكمن في حرية الثقافة وعدم تبعيتها للدولة.
ومشكلة العنصر الديني تكمن في تحويل الدين إلى نهج وحيد لتنظيم شؤون الحياة تحتكره السلطة السياسية والدينية، أو تحوله إلى ملة ومن ثم إلى طائفة، والحل يكمن في سير الحياة وفقا لفردانية التدين وحريته، وفرض سيادة القانون والمساواة والتعددية والعمل والإنتاج.
وسط ذلك كله، السؤال المطروح: ما مصير الحضارة الإسلامية؟
يجب بداية التفريق بين الدين والحضارة؛ الدين الإسلامي ظهر في أوائل القرن السابع الميلادي، في الحجاز، بينما الحضارة الإسلامية ظهرت بعد ذلك بقرنين على الأقل، وفي حواضر أخرى (بغداد، دمشق، القاهرة، الأندلس..)
بدأت معالم الحضارة العربية الإسلامية تتشكل بعد أن أخذت من حضارات الدول المفتوحة نظمها الإدارية، وهندستها ومعمارها وفلسفتها.. ثم أعادت إنتاجها على يد كوكبة من العلماء والفلاسفة والأدباء والفنانين المسلمين (بالمناسبة أغلبهم ليسوا من أصول عربية)، في ظل دولة الخلافة التي كانت في تلك المرحلة تشجع العلم، وتنعم بأجواء من الحرية والانفتاح، وتراخي قبضة الفقهاء.. وقد دام عصرها الذهبي ثلاثة قرون (800 - 1100)، وأسهمت بشكل فعال في حفظ التراث الإغريقي (من خلال الترجمة)، وإعادة إنتاجه من منظور إسلامي، وأحيانا علماني، كما ساهمت في تأسيس وتطوير علوم وفنون وفلسفات جديدة، في ميادين الطب والفلك والكيمياء والفلسفة، شكلت الأرضية التي قام عليها عصر النهضة.
بيد أن هذه الحضارة تراجعت سريعا، وتوقفت كليا منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وتحولت إلى مجرد تراث.. واستمرت في الأندلس لفترة أطول نسبيا.  
السؤال الأهم: هل بوسع الحضارة العربية الإسلامية أن تعيد أمجادها، وتنهض من جديد، وتهيمن مرة ثانية، كما كانت مهيمنة على مناطق شاسعة من العالم؟
أظن أن الإيديولوجيات العروبية والإسلامية ستسارع بالإجابة بـ»نعم» كبيرة..
وأظن أن المسألة تتعدى الأماني والرغبات والكلام الإنشائي والشعارات المنمقة.. فهناك عقبات كبرى أمام هذا التحدي، أولها، أن العوامل التي أدت إلى انهيار تلك الحضارة ما زالت قائمة، بل أضيفت إليها عوامل أخرى مستجدة .. والثانية تكمن في طبيعة المرحلة الكونية الحالية، والتي لا تسمح بهيمنة حضارة واحدة، والثالثة أن محركات نهوض الحضارة الحالية هي العلوم والتكنولوجيا، والعالم العربي في هذا الميدان غير مهيأ للمنافسة.. وثمة فجوة كبيرة بين واقعنا الحالي وبين العالم، وهذه الفجوة آخذة بالاتساع، ومع كل اتساع جديد نفقد فرصة أخرى للحاق بركب الحضارة الإنسانية، والمشكلة أننا لم نضع أرجلنا على السكة بعد.
نحتاج أولا إلى إعادة الاعتبار للعقل وحرية التفكير، وإلى نقد وتقييم التجربة التاريخية بكل شجاعة وصدق مع الذات، وإلى طرح تصورات عصرية حداثية، وهنا ليس شرطا التخلي عن التراث، بل المطلوب نقده وتنقيحه.
وأخيراً التفكير بمنطق التعاون والتكامل الإنساني، لا بمنطق سيادة ملة على الآخرين، والتفكير بالمستقبل، وليس التغني بأمجاد الماضي.
وإذا تغلب العرب والمسلمون على هذه التحديات (وهذا يحتاج فترة طويلة، وشروطاً صعبة)، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو الاندماج في الحضارة الإنسانية، والتحول من دور التابع والمستهلك إلى الشريك والمنتج، وهذا هو التحدي الأكبر.
وللموضوع تكملة..