بجرة قلم في البلد نشطب ما شئنا أن نشطب من الإبداع، ونمجد ما شئنا من الأمور العادية، وقد نكون على خلاف مع وزارة أو كاتب أو مخرج سينمائي أو رياضي أو مبتكر في زمن التكنولوجيا، والأسهل أن لا ننقُد العمل ومضمون الإبداع، بل نذهب صوب الشخص نفسه ونجرّح ونهاجم على قاعدة «أنني كنت قبل نصف قرن قد ألّفت كتاباً وكانت الأدوات متاحة أمامي، سواء حزبية أو طباعة أو منابر لتقول عنه إبداعاً وترقص به»، وكان بإمكانه أن ينظم مهرجاناً للأدب ومهرجاناً للمسرح لتمجيد كوادر حزبية على أنها ذروة الإبداع، واليوم لا يرون إبداعاً في كل ما يدور.
نشاهد فيلماً سينمائياً فلسطيني الإنتاج والإخراج، فلا نُبقي ولا نذر من الحديث السلبي العشوائي عنه، على قاعدة أننا نريد أن نرى انفسنا بالضبط في الفيلم، إذ لا يجوز ان تزيد قطبة واحدة في ثوب التطريز عما نعرف، ولا يجوز أن تؤخذ لقطة في الشارع الرئيسي في تلك المدينة، ولم تظهر دكانة (أبو محمد) لأنها معلَم، عفواً نحن لا نشاهد فيلماً وثائقياً عن المعالم السياحية والاثرية لتلك القرية أو هذه المدينة. نحن نشاهد حبكةً فنية قد يكون مكانها مدينة أو قرية فلسطينية أو كلاهما، ولكن لا تقاس الامور بهذا الشكل، هل تفكر أن تنقد فيلماً مصرياً لأنه لم يُظهر برج القاهرة؟ أو فيلماً لبنانياً لأنه لم يبرز صخرة الروشة؟، بالتأكيد لا.
أدوات النقد الفني معروفة، ومن يمتلكها مجموعة متخصصة، ولا يعقل أن أنصب نفسي ناقداً وأنا لم أقرأ مقالاً في النقد الفني. وما بالنا نتهالك على مجلات متخصصة بالنقد الأدبي والسينمائي والمسرحي والفني لنتنور منها قدر الإمكان، وبلحظة ننصّب أنفسَنا ناقدين ونحن في الواقع لسنا كذلك. هل من المعقول في العام 2020 نقول (أسوأ فيلم شاهدته) و(أسوأ كتاب قرأته)؟ أيُعقل أننا ما زلنا نعيش في أيام «إما أسود أو أبيض» عندما كنا نقرأ نقداً من عيار (استطاع الكاتب أن يكون منحازاً للكادحين والطبقة الفقيرة ويبرز واقعهم) أو (انسلخ الكاتب أو المخرج عن واقعه وانحاز لمالكي أدوات ووسائل الإنتاج مهملاً الطبقة العاملة) دون النظر لجودة النص الأدبي أو العمل المسرحي أو اللوحة التشكيلية، كم مرةً سمعنا عن فنان تشكيلي منحاز للفقراء والكادحين والطبقة العاملة، ولا نرى لوحةً بل نرى خطاباً سياسياً يصفق له من وصفوه كذلك، وكم أشكالية حدثت في القطاع الثقافي والفني والمسرحي واتهام لفرق مسرحية بأنها تعبر عن البرجوازية الفلسطينية دون أي أدوات نقد وتقييم للإبداع، بل كان الأمر بمجمله مجرد تسييس وتحزب ليس إلا، ولا نقلل من أهمية الإبداع آنذاك حتى لا أقع في ذات الشباك التي وقع فيها من ينقد فنياً وأدبياً اليوم بذات الادوات التي انطلقت من منحى سياسي حزبي فقط.
نقبل أن ننقد دور وزارة الثقافة في الإبداع ونقيّم تمويل الوزارة لأعمال إبداعية ومدى الجودة فيها، ولكن ليس من باب كل عمل (راسب) طالما أنه مُول من الوزارة، وكأننا نقول إن أعمالنا أو من نميل اليهم هي فقط التي تستحق التمويل الثقافي، هناك قنوات تأثير على قرارات الوزارة في منح التمويل للعمل الثقافي عبر النقاش والتأثير وعدم عكس رؤيتنا السلبية للوزارة بحيث يصبح أي عمل ممول منها الأسوأ على الإطلاق!!!!!!!
مطلوب ان توجه الجهود صوب إنشاء مؤسسة السينما الفلسطينية التي كانت قائمة قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، وكان لها دورها ولها رموزها وهي الراعية للعمل السينمائي الفلسطيني في أرجاء العالم كافة، وهذا جهد يحتاج الى طاقات قادرة على اقتياده الى بر الأمان، بحيث يكون حاضراً كجسم ناظم للعمل السينمائي الفلسطيني.
بتنا بحاجة ماسة الى تطوير أدوات النقد الفني والأدبي وعدم الاكتفاء بتغريدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل نذهب صوب اعتماد منهج علمي في النقد وليس على حسب الأهواء، وكم شاهدنا أفلاماً فلسطينية لم يأت على نقدها اي ناقد، وبمجرد عرض أعمال سينمائية فلسطينية وكأن أدوات النقد تكون جاهزةً لتسلخ بدنها وتنتف ريشها.
تُرى لماذا نغض الطرف عن نجاحات لأفلام فلسطينية في مهرجان الجونة، أو عندما يسير مخرج وممثل فلسطيني على البساط الأحمر في مهرجان كان السينمائي العالمي، وعندما ينال جائزة في مهرجان هنا وهناك في العالم، ونبرع بالنقد والتقييم اذا عرض في قاعة في رام الله أو بيت لحم أو نابلس لمجرد أننا نقيّده بالمكان والزمان وليس بالإبداع والفن.
