الانتفاضة الفلسطينية: أسباب ومواقف ونتائج

أحمد القدرة
حجم الخط

تستمر الانتفاضة الفلسطينية الشعبية في كافة أرجاء المدن والقرى الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وعرب فلسطين, بنفس الوتيرة والفاعلية والأسلوب منذ انطلاقها, رفضاً لكافة الممارسات العدائية والإجرامية التي تنتهجها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني. إذ ما يُميز الانتفاضة الحالية عن سابقاتها انتفاضة الحجارة 1987 والأقصى 2000 أنها انطلقت من غير قرار ومن دون قيادة سياسية وميدانية للانتفاضة وبعيداً عن أي تدخل حزبي, كما أنها تميزت بطابعها ومقاومتها الشعبية ووحدة المجتمع, على الرغم من استمرارية الانقسام الفلسطيني, فحجم الجرائم والمجازر التي لا تحصى ولا تعد والمستمرة, والتي رافقت حياة الشعب الفلسطيني على مدار التاريخ كانت هي المُحرك والدافع لدى الشباب الفلسطيني, فكان الهدف ومازال هو الدفاع عن القدس والأقصى والوطن والأرض للعيش بكرامة وحرية واستقلال وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف. لقد انطلقت الانتفاضة الفلسطينية كنتيجة ورد طبيعي وشرعي وقانوني كفلته له كافة القوانين والتشريعات السماوية والوضعية, لتقاوم وتتصدى بكافة الوسائل المتاحة والممكنة السياسة الاحلالية والإجرامية والقرارات والإجراءات العنصرية التي تنتهجها حكومة الاحتلال الإسرائيلي.
وهنا يجب الوقوف وتبيان الأسباب والعوامل التي دفعت بالشعب الفلسطيني إلى تولي زمام الأمر وإعلان الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي, وهي كالتالي:
استمرار المخططات الإسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً, والاقتحامات والانتهاكات المنظمة للمسجد الأقصى وللمقدسات الإسلامية والمسيحية من قبل وزراء حكومة الاحتلال ونوابه في الكنيست والمستوطنين والحاخامات بحماية قوات الاحتلال, ومنع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى بفرض إجراءات وقوانين تعسفية وعنصرية بحق المواطنين كتحديد الفئة العمرية المسموح لها بالدخول وفرض اغلاقات مستمرة, وسياسة تهويد القدس والأماكن الدينية والأثرية, وانتهاج سياسة التطهير العرقي بحق المواطنين من خلال فرض القوانين والإجراءات القمعية والتعسفية وذلك بتفريغ الأرض من السكان والطرد والإبعاد وهدم المنازل بحجج وهمية, والاستمرار في مصادرة مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية لاستكمال بناء الجدار الفصل العنصري وزيادة رقعة الاستيطان بالتوسع أفقياً لفرض واقع جديد على أرض الواقع من الناحية الديمغرافية والجغرافية والسياسية, والاقتحام المتكرر للمدن والقرى الفلسطينية, وارتكاب سلسلة من الجرائم والمجازر تجاه أبناء الشعب الفلسطيني من قتل وحرق واعدام وتعذيب واعتقال, واستمرار إقامة الحواجز التي تفصل المدن الفلسطينية عن بعضها البعض وتُقيد حرية التنقل فيما بينها, واستمرار عربدة المستوطنين وجرائهم, وسرقة المواد والمقدرات الطبيعية الفلسطينية, والتحكم في الاقتصاد الفلسطيني من خلال احتجاز عائدات الضرائب, واستمرار حصار قطاع غزة وقيامها بشن ثلاثة حروب على غزة, واستمرار اعتقال أكثر من ستة آلاف فلسطيني في سجون الاحتلال, واستمرار حكومة الاحتلال الضرب بعرض الحائط لكافة القرارات الدولية التي صدرت بحق القضية الفلسطينية, وعدم تنفيذ القرارات والاتفاقات التي وقعت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي, وإفشال وعرقلة كافة جولات المفاوضات بسبب الرفض والتعنت الإسرائيلي تجاه المطالب والحقوق الفلسطينية, والتي أدت إلى تعثر عملية السلام بسبب التأثير الإسرائيلي المستمر لإفشال أي قرار وأي مشروع وأي مبادرة تهدف إلى حل القضية الفلسطينية وفق القرارات الأممية والمبادرة العربية للسلام, لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية والتي كان آخرها المشروع العربي ما أدى إلى انسداد الأفق السياسي الفلسطيني, والاستمرار في الحملة الدعائية والتحريضية والعدائية من قبل حكومة الاحتلال والحاخامات والمستوطنين تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية والفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني, في ظل حكومة يمينية متشددة ومتطرفة برئاسة بنيامين نتانياهو.
في ظل هذا كله تعددت المواقف والآراء الرسمية على المستوى الداخلي الفلسطيني والخارجي العربي والإقليمي والدولي حول الانتفاضة, والتي يمكن توضيحها في التالي:
أولاً: الموقف الفلسطيني: لقد تزامنت الانتفاضة مع خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة 30/9/2015 والذي أكد فيه على عدم الالتزام بالاتفاقيات المُبرمة بين السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال, وهذا القرار جاء بعد انسداد الأفق السياسي وفشل عملية السلام في حل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال, وتراجع أهمية ومكانة ومركزية القضية الفلسطينية عربياً وإقليمياً ودولياً وظهور وتصدر قضايا وأزمات كانت ومازالت على حساب القضية الفلسطينية, فما كان من الرئيس الفلسطيني إلا أن طالب ودعا المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية. هذا الانسداد واليأس لم يكن مقصوراً على المستوى السياسي فقط بل أيضاً على المستوى الشعبي, الذي يعيش منذ سنوات طوال معاناة فشل العملية السياسية, في ظل استمرار قوات الاحتلال الإسرائيلي ارتكاب المجازر والجرائم والممارسات التعسفية بحق الشعب الفلسطيني, وكأن الخطاب كان إشارة البدء للانتفاضة والمقاومة الشعبية للدفاع عن المقدسات والنفس, وهذا ما أكد عليه الرئيس في خطابه في رام الله بتاريخ 14/10/2015, "سوف نستمر في كفاحنا الوطني المشروع الذي يرتكز على حقنا في الدفاع عن النفس، وعلى المقاومة الشعبية السلمية والنضال السياسي والقانوني", و"سنواصل معكم وبكم نضالنا السياسي والوطني والقانوني", "ولن نبقى رهينة لاتفاقيات لا تحترمها إسرائيل". وانسجاماً مع تلك التطورات السياسية والميدانية ومع ما جاء في خطاب الرئيس الفلسطيني, فقد حظيت الانتفاضة الشعبية قبولاً ودعماً رسمياً من قبل الرئاسة والحكومة الفلسطينية ومن قبل الفصائل الفلسطينية على الرغم من التباين والاختلاف في كيفية ادارة الانتفاضة ومواجهة قوات الاحتلال, وطبيعة المقاومة هل تبقى شعبية أم تتطور إلى العسكرية, وهل تبقى فقط في القدس والضفة الغربية أم تشمل كل المدن الفلسطينية بما فيها قطاع غزة, هذا التباين والاختلاف مبني على تقديرات موقف واعتبارات تحكمها التطورات الميدانية والسياسية إلى جانب الاعتبارات والمصالح الحزبية, بالإضافة إلى ذلك فقد حظيت الانتفاضة أيضاً دعماً وتأييداً من القوى والأحزاب السياسية الفلسطينية في أراضي الداخل المحتل.  
ثانياً: الموقف الخارجي: مع استمرار الانتفاضة الفلسطينية, بدأت الدبلوماسية الوقائية بالتحرك عربياً وإقليمياً ودولياً, من أجل استعادة الهدوء خشية من تطورها وتحولها إلى انتفاضة شاملة, بعد أن أخذت تلك المواجهات مرحلة متقدمة بتنفيذ عمليات بطولية من قبل الشباب الفلسطيني, وقيام حكومة الاحتلال وقواتها بإصدار سلسلة من القوانين والإجراءات العقابية والعنصرية والتمادي في ارتكاب الجرائم والقتل والاعتقال, فكان الموقف الخارجي مشترك بمطلبه وهو استعادة الهدوء وضبط النفس وعبارات الشجب والادانة والاستنكار, فموقف النظام العربي والإقليمي لم يتغير منذ عقود فهو يدعم ويساند الحقوق الفلسطينية ويطالب بتنفيذ القرارات الأممية الصادرة بحق القضية الفلسطينية, ويدين ويستنكر كافة الممارسات والإجراءات التي تتبعها حكومة الاحتلال, وسعى النظام العربي إلى جانب المبادرة العربية  للسلام, إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بتحديد جدول زمني لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية, وفي خضم الانتفاضة تركزت كل المطالب العربية من المجتمع الدولي بضرورة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني, ووقف سياسة حكومة الاحتلال الاحلالية والإجراءات والقرارات العنصرية التي أصدرتها, وحماية المسجد الأقصى ومدينة القدس من المخططات الهادفة إلى التقسيم, هذا الموقف الثابت لن يخرج من بوتقة الخطاب السياسي والإعلامي, ولن يتطور إلى حد قطع العلاقات مع دولة الاحتلال.
أما الموقف الدولي فهناك نوع من التباين والاختلاف, فالولايات المتحدة الأمريكية ترى أن من حق إسرائيل الدفاع عن أمنها ونفسها والتصدي للإرهاب, وهي بذلك تستمر في دعم الاحتلال سياسياً وعسكرياً وقانونياً, فهذا الموقف ثابت لدى الادارة الأمريكية عن عدم التخلي عن إسرائيل وتوفير كل سبل الدعم والمساندة لها, والتصدي لأي مشروع قرار يقدم لمجلس الأمن يدين إسرائيل ولا ينسجم مع المصالح الأمريكية الإسرائيلية, فجاء الرفض الأمريكي لمشروع قرار فرنسي قبل أن يتم عرضه والذي يطالب بتوفير مراقبين دوليين في الأماكن المقدسة, وتأتي زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى المنطقة للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومن ثم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو, لمحاولة احتواء الأوضاع وعدم تفجرها وانقاذ ماء وجه الرئيس الأمريكي أوباما قبل انتهاء ولايته الثانية في محاولة لإحياء عملية السلام, أما الموقف الألماني لم يكن بعيداً عن الأمريكي من حيث القلق والخوف وحق إسرائيل الكامل في الدفاع عن مواطنيها وأمنها, إلا أن الموقف الفرنسي والروسي يختلفان عن الأمريكي والألماني, ففرنسا قدمت مشروع قرار إلى مجلس الأمن يطالب بتوفير مراقبين دوليين عند الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس, فالموقف الفرنسي تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام بدأ يأخذ طابع أخر, وذلك حينما قامت فرنسا بالتصويت على مشروع القرار العربي لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية, ومن ثم سعيها إلى تقديم مشروع لمجلس الأمن, هذا الموقف الفرنسي ترجم بإمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية إذا ما فشلت العملية والتسوية السياسية, أما الموقف الروسي فحمّل إسرائيل كافة المسؤولية عن اندلاع المواجهات وارتكاب الجرائم, والمطالبة بتقديم مقترح لمجلس الأمن لتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني, والحفاظ على الوضع الراهن للأماكن والمقدسات الإسلامية في القدس.
هذا الموقف الخارجي عربياً وإقليمياً ودولياً تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام والانتفاضة بشكل خاص, جاء نتيجة لتصدر قضايا وأزمات المشهد السياسي وأجندة وجدول أعمال الدول العربية والإقليمية والدولية والتي جاءت على حساب القضية الفلسطينية, وأن تلك المواقف تدخل ضمن سباق التنافس على منطقة الشرق الأوسط بين كافة القوى الإقليمية والدولية, فالأزمة السورية واليمنية والليبية والاتفاق النووي الإيراني والجماعات الإرهابية, أصبحت ساحة للتنافس بينهما, فكلاهما ذهب إلى تشكيل تحالفات خدمة لمصالحه والحفاظ عليها وتوسيع نفوذه في المنطقة. فالدول العربية ضمن التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا لمحاربة تنظيم داعش في سوريا والعراق وليبيا, في المقابل التحالف الآخر بقيادة روسيا ويضم إيران والعراق وسوريا لمحاربة قوات المعارضة السورية, وتحالف تقوده السعودية يضم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والمغرب والسودان, لمحاربة الحوثيين في اليمن والتصدي للنفوذ والتمدد الإيراني في منطقة الخليج العربي.
وأمام هذا المشهد الداخلي والخارجي, تستمر الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت في الأول من أكتوبر 2015, بعملياتها النوعية وتصديها لقوات الاحتلال والمستوطنين ورفضها لكافة القرارات التي صدرت من قبل حكومة الاحتلال في محاولة منها لإجهاض الانتفاضة الفلسطينية, لكن كانت النتائج عكسية, فمازالت العمليات النوعية الفردية والمواجهات مستمرة والاصرار الفلسطيني المتزايد في مواصلة انتفاضته حتى تحقيق حريته واستقلاله, والسؤال هنا يتمحور حول كيف كان انعكاس الانتفاضة على الوضع الفلسطيني والإسرائيلي؟ فلسطينياً كما أشرت سابقاً فهو انعكاس إيجابي على الرغم من ارتقاء أكثر من 44 شهيداً وأكثر من 5500 جريج ومئات المعتقلين, فهناك دعم وتأييد رسمي وشعبي ومجتمعي لهذه الانتفاضة إلى جانب تجسيد الوحدة الوطنية على مستوى المجتمعي فقط دون السياسي, أما إسرائيلياً, فكان الانعكاس سلبي سياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً, فقد أدخلت الانتفاضة حكومة الاحتلال في حالة من التخبط والتوتر السياسي والتي بدأت تؤثر في مستقبل نتنياهو السياسي, فالمجلس الوزاري المصغر في حالة انعقاد دائم لمحاولة ايقاف الانتفاضة الفلسطينية, بفرض اجراءات وقرارات وقوانين جديدة كوسيلة ترهيب للمواطنين في القدس والضفة الغربية, من هدم منازل منفذي العمليات البطولية, وتجنيد جنود واستدعاء كتائب, وفرض حصار على أحياء فلسطينية في القدس, كل ذلك دلالة على حالة الخوف والرعب والهيستيريا وانعدام الأمن لدى دولة الاحتلال, والذي أدى بدوره إلى خسائر اقتصادية كبيرة تقدر بأكثر من خمسة مليار دولار, بسبب ارتفاع تكلفة الانفاق على القوات العسكرية وتراجع نسبة الخروج إلى الأسواق والمتاجر, وإلغاء الكثير من الرحلات السياحية وحجوزات الفنادق, وتراجع ملحوظ في البورصة والاستثمارات والتبادلات التجارية.
وبعد استعراض الأسباب التي أدت إلى قيام الانتفاضة الفلسطينية وتبيان المواقف الداخلية والخارجية وكيف أثرت هذه الانتفاضة بشكل أكبر على دولة الاحتلال, وفي ظل استمرار ارتكاب الجرائم من قبل الاحتلال وحكومته والمستوطنين, واستثماراً للتلاحم والوحدة المجتمعية بين كافة مكونات المجتمع الفلسطيني, ولكي تحقق الانتفاضة أهدافها فإن المطلوب هو الإسراع في إنهاء الانقسام الفلسطيني واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية, وتشكيل حاضنة وطنية للانتفاضة بتشكيل قيادة عمل موحدة للانتفاضة من كافة القوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية, وتحديد أدوات واستراتيجية المقاومة والتأكيد على أهمية بقاؤها شعبية, وصياغة برنامج سياسي وطني ورؤية استراتيجية جامعة شاملة مشتركة بتوافق الجميع, والإسراع في عقد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني لتحديد الخيارات والمسارات الفلسطينية, والتأكيد على شرعية ووحدة التمثيل الفلسطيني الممثل بمنظمة التحرير الفلسطيني, وتوحيد الخطاب السياسي والإعلامي لكشف جرائم وممارسات قوات الاحتلال, والمضي قدماً في تنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني وما جاء في خطاب الرئيس الفلسطيني في الجمعية العامة للأمم المتحدة, والتوجه إلى محكمة الجنايات الدولية وتقديم الملفات التي تم إعدادها بكافة جرائم الاحتلال لمحاكمة قادة الاحتلال, ومطالبة المجتمع الدولي بتنفيذ كافة القرارات الدولية التي تؤيد وتدعم الحقوق الفلسطينية.
أحمد سمير القدرة
باحث في شؤون الشرق الأوسط