قميص المصالحة الفلسطينية

حجم الخط

عيسى الشعيبي يكتب

على خلفية الإعلان عن عودة العلاقة غير المتكافئة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى سابق عهدها، بكل ما تنطوي عليه هذه العلاقة من إشكالاتٍ واختلالاتٍ تثير الحفيظة وتؤجج الخلافات، وما تسبّب به شقّها الأمني، خصوصاً، من مشاعر قهر واستلاب، على هذه الخلفية، يجد المرء نفسه في توافقٍ شبه تام مع قناطير النقد والقدح والذم التي انهالت على رأس “حليمة” عندما عادت هذه المسكينة إلى عادتها القديمة، من دون التشاور مع أهل بيتها، أو الاتعاظ من تجاربها، بل وحتى من غير أن تبرّر فعلتها المفاجئة هذه أمام شركائها في الهمّ والغم.

يفرض هذا الاستدراك نفسه، أولاً لمنع سوء الفهم، وثانياً لوضعه جنباً إلى جنب، مع فضيلة التحفظ الموضوعي والاتزان، إزاء ما شاب خطاب بعض المصدومين والغاضبين من لغةٍ اتهاميةٍ حادّة، بلغت سقوف مفرداتها حد التخوين والتكفير، على نحوٍ أعاد إلى الذاكرة الغضّة مشهد الحرب الكلامية الضارية التي نشبت داخل الأوساط الفلسطينية الملتاعة إزاء فداحة الثمن المدفوع غداة الوقوف، قبل 27 سنة، على إكراهات اتفاق أوسلو ونواقصه، لا سيما وأن كأس القوم المخذولين، حتى تاريخه، لا يزال على حاله، طافحٌ بالمرارة الشديدة، ومترعٌ بالألم وخيبة الأمل.

وهكذا، بدا كل هذا اللوم الجارف لعودة تلك العلاقة البغيضة في محله تماماً، وله ما يسوّغه بقوة، وربما كان هذا النقد الصحي مطلوباً بالضرورة الموضوعية، ومن لزوميات الحياة اليومية لشعبٍ مكافح، تتسم نخبُه بالحيوية، والفعالية النوعية، والتعدّدية السياسية، وذلك كله لو لم يتم إقحام مسألة المصالحة على خط النقاش المحتدم حول العودة المشؤومة لتلك العادة القديمة، وتحميل حليمة المسكينة وزر إضاعة فرصة رأب الصدع الثمينة، تلك التي كثيراً ما بدت قاب قوسين وأدنى، إلا أنها ظلت تستعصي على المنال، تنتكس فجأة، وتأبى التقدّم ولو خطوة واحدة.

إذ يمكن التعاطي مع معظم الانتقادات ضد العودة إلى مربع التنسيق الكريه، بكل تفهم للمقاصد النبيلة، وللبواعث النضالية، والانفعالات الوطنية، كما يمكن أيضاً غض الطرف عن المواقف الرافضة أصلاً، والمتشكّكة مسبقاً بكل خطوةٍ تقدم عليها السلطة الفلسطينية، حتى وإن أتت بمفاتيح يافا وعكا واللد، إلا أن الأمر الوحيد الذي لا يمكن القبول به، بل ورفضه بالبنط العريض، هو هذا الاستخدام المفرط لمفهوم المصالحة، أداة لتسجيل النقاط وليّ الذراع، ناهيك عن توظيفها بإفراط كلما “دقّ الكوز في الجرّة”، وكأنها قميص عثمان جديد.

لقد باتت هذه المصالحة وكأنها ليلى العليلة في غزة، كل طرفٍ يدّعي وصلاً بها، يتحرّق شوقاً لملاقاة سيدته الجميلة، وردّها معافاة إلى بيت أبيها، اليوم قبل الغد، لاحتضان نصفه الثاني المحاصر في حريته ولقمة عيشه، المضروب على مؤخرة رأسه، غير أن من مزقوا ثوبها شر تمزيق قبل 14 عاماً، وكشفوا سترها على الملأ، من دون وخزة ضمير، لم يوفوا الوعد ولو لمرّة، ولم يصونوا حتى العهد والقسم المقطوع عند أستار الكعبة، إلى أن أصبحت هذه العليلة التي طافوا بهودجها من الدوحة إلى داكار، مروراً بمكة والقاهرة وإسطنبول وغزة وبيروت وموسكو، إبريق زيت القضية الفلسطينية.

ولعل الزعم الجارح بالانتصار على الجلاد، بدل الحديث، بشيءٍ من التواضع والاستحياء، عن تحقيق مكسب مهم، مثل استعادة أموال المقاصّة من دون استقطاعات، هو أسوأ ما في هذه القصة المحزنة من الألف إلى الياء. كما أن العودة إلى الوراء هكذا من غير تشاور مسبقٍ مع الشركاء والحلفاء، فضلاً عن تمرير القرار من خارج أطر المؤسسات، ومن دون تهيئةٍ للرأي العام، زاد الطين المبلول بلّة، وفاقم من حدّة الصدمة، وفتح الباب واسعاً أمام هذا السيل الجارف من الانتقادات المحقة، ففي زمن الانهيارات المدوية على كل صعيد، الهرولات والتطبيع والانقسام، تغدو أقصى الأمنيات الواقعية في مثل هذه الأوضاع، وأقرب الأهداف المرجوة، والحال هو هذا الحال، هو تقليل الخسائر ما أمكن، وليس الكلام عن الانتصارات، هو توفير أسباب الصمود على الأرض، التمسّك بالثوابت الوطنية، التمكين وتحصين الذات ضد عوامل اليأس والإحباط، رفع سوية الأداء، تحسين مخرجات سائر الخدمات، وتعظيم مدخلات حقوق الإنسان، إلى أن تتبدل المعطيات والتوازنات، ولو بعد جيل أو أكثر، انطلاقاً من حقيقة أن جوهر الصراع الذي كان طويلاً لا يزل طويلاً بعد.