تتجه أنظار العالم قاطبة هذه الأيام إلى الاجتماع الطارئ الذي من المفترض أن تعقده "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية في التاسع من كانون الأول القادم، والذي سوف يتم تخصيصه لمناقشة الطلب الطارئ الذي تقدمت به شركة "فايزر" الأميركية، من أجل الموافقة السريعة على ترخيص ومن ثم استخدام اللقاح العتيد لفيروس كورونا، الذي تم تطويره والإعلان عن نتائج المرحلة الثالثة من اختباره على عشرات الآلاف من المتطوعين قبل عدة أيام.
وفي ظل النتائج الأولية التي أظهرت فعاليته بأكثر من 90% ودون آثار جانبية ملموسة، وفي ظل الأوضاع الطارئة التي يعيشها العالم هذه الأيام، فمن المتوقع أن توافق الإدارة على ترخيص اللقاح وبالتالي البدء باستخدامه، ومع هذه الموافقة، من المتوقع أن تتبعها الهيئات الدولية الأخرى، وبالأخص الهيئة الأوروبية لمراقبة الأغدية والأدوية وغيرها، بالتالي ينتشر استخدامه وبسرعة في العالم.
وإدارة الغذاء والدواء الأميركية، تعتبر من أقوى الهيئات الرقابية في الولايات المتحدة وفي العالم، حيث لا يمكن لأي منتج دوائي أو غذائي أن يصل إلى الأسواق وبالتالي إلى المستهلك، دون إجراءات طويلة ومضنية ومعقدة يجب أن يمر بها تحت إشراف دقيق من قبل هذه الهيئة التي يتم تعيين رئيسها من قبل الرئيس الأميركي مباشرة، ويجب أن يتم من خلال تمحيص واستجواب وبالتالي موافقة الكونغرس الأميركي، تعمل وبشكل مستقل عن التدخلات أو المصالح السياسية من أجل إيصال الدواء والغذاء إلى المواطن الأميركي بسلامة وجودة وكفاءة، وليس هذا فقط، ولكن وحتى بعد التسويق أو بعد تسجيل المنتج والبدء باستخدامه، فإن الهيئة قادرة وبقوة القانون على سحب أي منتج يتعلق بمجال عملها من الأسواق، سواء بناء على دراسات جديدة أو ملاحظات، وهي كذلك تستطيع الطلب من الشركات المسوقة إجراء تجارب جديدة تتعلق بالسلامة والفعالية والجودة، والهدف الأساسي بالطبع هو حماية المستهلك والحفاظ على حقوقه.
في بلادنا، لا توجد هيئة مستقلة أو إدارة مشابهة رغم وجود أجسام أو دوائر أو أقسام متعددة تتبع وزارات مختلفة، مثل وزارات الصحة والاقتصاد والزراعة وسلطة البيئة وغيرها، تعمل بشكل منفرد وفي أحيان عديدة دون تنسيق، هذا وبالإضافة إلى أن تشتيت الجهود والميزانيات وبعض المنافسة، يؤدي إلى غياب وضوح الأدوار وبالتالي إلقاء اللوم على هذه الجهة أو تلك حين تكون هناك مشكلة أو أمور تتعلق بسلامة الغذاء والدواء، وبالتالي فإننا بحاجة إلى لملمة هذه الطاقات والجهود والكفاءات وما إلى ذلك، تحت مظلة هيئة متكاملة، ربما تتبع الرئيس أو رئيس الوزراء مباشرة، وتكون تحت رقابة مباشرة من المجلس التشريعي وتعمل على حماية المستهلك حين يتعلق الأمر بالأدوية والأغذية، وفي محيطنا العربي، أعتقد أن مثل هيئة كهذه متواجدة وبقوة وبكفاءة في دول مثل الأردن والسعودية وربما غيرهما.
ونحن في بلادنا الأحوج إلى وجود مثل هيئة كهذه، بسبب الأوضاع الخاصة التي نعيشها، ومنها صعوبة مراقبة المعابر وبالتالي وصول منتجات لا نرغب بوصولها أو لا نستطيع التحكم بتواجدها في الأسواق وبالتالي وصولها إلى المستهلك الفلسطيني، حيث ما زالت قضية تلوث المنتجات، سواء أكانت مستوردة وبالأدق منتجات إسرائيلية، أو منتجات محلية، تثير القلق والخوف عند المستهلك الفلسطيني الذي قد تصل او وصلت إليه هذه المنتجات بسهولة، وبالأخص بعد التأكيد ان بعض هذه المنتجات خلال الفترة الماضية كانت ملوثة بيولوجيا أو كيميائيا قد وصلت الى رفوف المحلات وبالتالي تم استهلاكها من قبل الناس.
وفي بلادنا، وفي ظل مواصلة ضبط ومصادرة والحديث عن وجود مواد فاسدة متعددة، أي غير آمنة أو تفتقد الفعالية المرجوة، فالمطلوب إجراء عملية تقييم لعمل الجهات الحالية العاملة في هذا المجال، وهذا أمر روتيني عادي تقوم به جهات كثيرة وذلك لتقييم عملها ولتبيان النقاط الإيجابية ومن ثم تدعيمها، وكذلك لتبيان السلبيات ومن ثم العمل على تجاوزها، وحتى تتم عملية التقييم، ومن اجل طمأنة المستهلك، فالمطلوب من الجهات الرسمية وغير الرسمية المهتمة بسلامة الغذاء والدواء ولمنع وصول المواد الفاسدة للناس، وضع برنامج منظم ومتكامل من اجل سحب عينات عشوائية، سواء أكانت من الخضار او من الفواكه أو من منتجات غذائية، او من الدواء، او حتى من الخبز والكعك، والحليب ومشتقاته، وإجراء الفحوصات الروتينية لهذه العينات، في مختبرات تم اعتمادها، وتم التأكد ومن خلال مختصين بجاهزيتها، سواء طاقمها او أجهزتها، والاهم كذلك نشر نتائج الفحوصات من خلال الإعلام، قبل أن تصل إلى المستهلك.
وبالإضافة إلى الفحوصات الدورية، يجب تطبيق القوانين الفلسطينية وبحزم، وخاصة فيما يتعلق بالمتاجرة واستعمال المواد الكيميائية المحظورة، وبالأخص المبيدات الكيميائية المحظورة والخطيرة، لأن خطرها يمتد من المزارع الذي يستعملها الى المواطن الذي يستهلك بقاياها، من خلال الخضار او الفواكه او الحليب واللحوم، وكذلك يجب القيام بمراجعات دورية للمواد الكيميائية المستعملة في بلادنا، ومن ضمنها المستحضرات الكيميائية وبأنواعها، ومتابعة ما يجري في بلدان العالم في هذا الصدد، من دراسات وأبحاث لها علاقة باستعمال هذه المواد الكيميائية.
وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن حوالى 2 مليون شخص يموتون سنويا، بسبب الأغذية الملوثة او الفاسدة فقط، والتي تشمل الماء والغذاء، ومنهم حوالى مليون ونصف المليون من الأطفال الذين يموتون بسبب أمراض الإسهال، الناتجة في غالبيتها عن الطعام الملوث، وحسب المنظمة فإن الأطعمة الفاسدة هي المسبب الرئيسي لحوالى 200 نوع من الأمراض المختلفة، سواء بسبب البكتيريا، الفيروسات، الطفيليات، او بسبب تلوثها بالمواد الكيميائية والإشعاعية، حيث يمكن ان يحدث التلوث في المزرعة، او خلال السلسلة التي من خلالها يصل الطعام الى المائدة ومن ثم إلى الإنسان، والطعام الملوث كيميائيا، يمكن ان يؤدي إلى أمراض مزمنة او إلى تداعيات صحية بعيدة المدى، مثل أمراض السرطان، والتغيرات العصبية والخلقية، وللذكر فإن الاستخدام المكثف للأدوية البيطرية قد أدى الى تكون سلاسل من البكتيريا، تقاوم اشد أنواع المضادات الحيوية فعالية، وما لذلك من عواقب صحية وخيمة.
وفي بلادنا، فإن الطعام الملوث كيميائيا، قد يصل إلينا من خلال مسارات عديدة، سواء من خلال الغذاء الذي نستهلك، او عن طريق المياه التي نشرب، وعلى سبيل المثال، يمكن ان نتعرض لكميات قليلة من المبيدات الكيميائية في منتجات غذائية او في المياه، هذا بالإضافة الى الازدياد في اتباع أنماط غذائية غير صحية، من حيث استهلاك المواد المصنعة او المجمدة وما تحوية من مضافات كيميائية، او الأطعمة السريعة، والتي تعتبر مؤشرات مقلقة للإصابة بأمراض غير سارية او مزمنة.
وفي بلادنا، فإن موضوع الأغذية والأدوية غير الصالحة ما زال يثير القلق والإرباك والحيرة، عند المواطن الفلسطيني، وبالأخص انه يدرك ان ما يتم اكتشافه او ما يتم الإعلان عن ضبطه وإتلافه، لا يمثل إلا الجزء البسيط، من تلك المواد الموجودة في السوق، وبالتالي ودون شك، فإن جزءا لا بأس به، يصل إلى المائدة، ومن ثم إلى أيادي وبطون المستهلك، وما لذلك من آثار وتداعيات، ان لم نلمسها، الآن، فقد تكون لها انعكاسات بعيدة المدى، وبالأخص في ظل تواصل انتشار أمراض غير سارية أو مزمنة لم نعتد عليها في بلادنا خلال السنوات الماضية.
وبالإضافة الى الأطعمة غير الصالحة، فموضوع سلامة الأدوية يضاهي بالأهمية موضوع الأطعمة الفاسدة، حيث تتحدث الأخبار، بين الفينة والأخرى، عن وجود أدوية غير فعالة او مهربة او منتهية الصلاحية في السوق الفلسطينية، وعن وجود مستحضرات تجميل مهربة او غير مسجلة، وبالتالي غير خاضعة للتفتيش والفحوصات، وما لهذه الأنباء من تبعات ومن أهمها حالات القلق والإرباك وعدم الوضوح عند المواطن الفلسطيني، وكذلك الآثار الصحية والبيئية والاقتصادية المترتبة على ذلك، وهذا يؤكد على أهمية وجود هيئة مستقلة تملك الإمكانيات من كفاءات بشرية ومختبرات وبرامج عمل لحماية المواطن الفلسطيني من الأدوية والمستحضرات الأخرى والمتداولة في السوق الفلسطينية، والتي قد تكون في أحيان عدة خطيرة.
ومع تواصل انتشار فيروس كورونا، والترقب بمصادقة الهيئة الأميركية وبالتالي البدء في الاستخدام الواسع للقاحات ومن ثم مراقبة فعاليتها، وفي ظل تزايد أهمية مراقبة الأغذية والأدوية على مستوى العالم وفي بلادنا، وفي ظل الواقع الحالي من وجود جهات متعددة عندنا، سواء أكانت رسمية او غير رسمية، تعمل او تتدخل في مجال سلامة الطعام والدواء، والذي قد يؤدي في أحيان عديدة الى تضارب او إلى غياب التنسيق بين هذه الجهات، او حتى إلى تبادل الاتهامات وتحميل المسؤولية حين يكون هناك أشكال او مشكلة، لذا فمن الأحرى المبادرة من اجل إنشاء جسم واحد يضم كافة الجهات العاملة في مواضيع سلامة الطعام والدواء، تعمل على تحديد الأولويات وتوفير الإمكانيات تحت مظلة واحدة، وتكون العنوان الأوحد الذي يتعامل مع أمور مصيرية تهم كل الناس.