تقترب الهبة الجماهيرية من الشهر عمراً، ويتخطى عدد شهدائها على الخمسين، وما زال تشكيل قيادة موحدة لها في باب الدعوات والتصريحات العامة لزوم العادة والديباجة المكررة تصدر عن هذا المسؤول التنظيمي أو ذاك، أو ما زالت في باب المناشدات التي تأتي أساساً من الناس.
يقول مثلنا الشعبي: «لو بدها تشتّي غيّمت»، وهي لا غيمت ولا شتّت حتى الآن، ولا يبدو أنها ستفعل.
لو بدها تشتّي وِحدة، ما غيمت مظاهرات ينظمها هذا التنظيم أو ذاك لوحده، وفي أحسن الحالات مع تنظيم آخر فقط يتفق معه بالفكر، اللهم، إلا تلك المظاهرات التي يبادر إليها الناس العاديون بتلقائية.
لو بدها تشتي وِحدة، ما غيمت أعلام التنظيمات لتغرق مظاهراتها وفعالياتها - وتلف جثمان الشهيد في بعض الحالات - تاركة العلم الوطني تائهاً يشكو الندرة والوحدة، في مؤشر على أولوية التنظيمي المُفرّق على الوطني المُجمّع.
لو بدها تشتي وِحدة، ما كان كل تنظيم يصدح بمواقفه وبياناته منفرداً في غياب الصوت الكورالي يصدح بالكلام الواحد على توحد اللحن، رغم تنوع آلاته.
لو بدها تشتي وِحدة، لرأينا حركة نشطة من الاقتراحات والمبادرات المحددة الجدية والمسؤولة، وربما رأينا حركة نشطة من الاجتماعات واللقاءات والفعاليات المشتركة، ولو بين البعض، على هذا الطريق.
لا يزال الطابع العام للهبة الشعبية، رغم انتشارها على كل جغرافيا الوطن هو المبادرات الفردية والمناطقية من الشباب بالدرجة الأولى، وينطبق هذا القول على القدس وجوارها كما على بقية المدن والمناطق.
هذا الطابع متكامل مع قصور التنظيمات الفلسطينية في تشكيل قيادة موحدة ببرنامج وطني موحد، يبقي طابع الهبة الجماهيرية الأساسي وجوهر محتواها هو الدفاع عن القدس وعن المسجد الأقصى بالذات، ويؤخر، بالدرجة الأولى وحتى الآن، رفعها شعارات ومطالب مباشرة محددة ووطنية عامة، هذا إذا استثنينا المطلب شديد الوضوح والثبات المتعلق بمقاومة أية إجراءات يحاول الاحتلال فرضها لتغيير الواقع الذي ظل ثابتاً في المسجد الأقصى عبر الزمن.
وهذا ما يبقي الهبة الجماهيرية حتى الآن أقرب إلى زفرة غضب ضد القهر والظلم والاعتداءات بكافة أنواعها وأشكالها، وهو أيضاً ما يدفع البعض إلى التوجس والشك حول امتلاك الهبة الجماهيرية مقومات الاستمرار وإمكانات التطور.
عدم بلورة الهبة الجماهيرية لمطالبها المباشرة والمحددة، باستثناء مطلبها حول القدس كما تمت الإشارة، لا يلغي ولا يبهت من حقيقة تناغمها الكامل مع المطالب الوطنية العامة الثابتة لحركة النضال الوطني الفلسطيني وقيادتها السياسية، ولا يلغي حقيقة أنها تصب في مجرى النضال الوطني العام الساعي لتحقيق تلك المطالب بكل الوسائل وأشكال المقاومة المتاحة.
والهبة الجماهيرية، وبشكل خاص، بقدر ما تحسم الجدل الداخلي حول بعض القضايا، فإنها تقوي موقف القيادة السياسية باتجاه الثبات في مواجهة أية ضغوطات يتوقع أن تتعرض لها من قوى دولية للتراجع عن بعض المواقف أو التنازل عن مطالب معينة، أو الدخول في مسار ثبت عقمه وبات مرفوضاً، خصوصاً وأن دولة الاحتلال وقياداتها السياسية ترى في السلطة الوطنية وقيادتها المسؤولة الرئيسة عن الهبة الجماهيرية وعن التحريض عليها.
إن عدم بلورة المطالب المباشرة والمحددة، لا يقلل بأية حال من رؤية النجاحات والإنجازات الهامة والعظيمة التي تحققها الهبة الجماهيرية على أكثر من مستوى وفي أكثر من ناحية: أولها، استمرارها وتصاعدها وانتشارها السريع في كل المناطق، واستمرار صمود الناس وتصاعد قدراتهم على المجابهة وزيادة استعدادهم للتضحية، إضافة إلى نجاحها في تجاوز الانقسام البغيض ومفاعيله المدمرة، ثم نجاحها في الحفاظ على طابعها السلمي بعيداً عن العسكرة.
وثانيها، إرباك العدو المحتل وإبقاؤه في مربع الخوف، ودفعه إلى التخبط والاضطراب، كما دفعه إلى تمرير قرارات عنصرية من واقع ردة الفعل الخائفة لا تأتي له بأية نتيجة، سوى أنها تزيد من فضح عدوانيته وعنصريته. وثالثها، أنها بدأت تحفر لنفسها مجرى متزايداً من التفاعل والتأييد والمناصرة، ظهرت بوادره في عدد من المظاهرات خرجت في عدد من العواصم العالمية، وفي الاجتماع الخاص الذي عقده مجلس الأمن الدولي وفي اجتماع اللجنة الرباعية، كما ظهرت في الاقتراح الفرنسي لاستصدار قرار رئاسي في مجلس الأمن يدعو إلى إرسال مراقبين دوليين للمسجد الأقصى. وبغض النظر عن الجدوى الواقعية للاجتماعات الدولية والاقتراح الفرنسي والموقف الفلسطيني منه، فإن دولة الاحتلال لا تبدي ارتياحاً للاجتماعات، كما أنها سارعت إلى رفض الاقتراح الفرنسي.
وإذا كان المظهر الغالب لهذا المجرى ما زال - باستثناء مظاهرة كبيرة في تونس - يحصل خارج حدود الوطن العربي، بسبب الأوضاع السائدة، فإنه لا بد لهذا المجرى أن يصل بمفاعيله إلى غايته طالما استمرت الهبة الجماهيرية.
إذا كان تشكيل قيادة موحدة للهبة الجماهيرية غير متحقق، رغم ضرورته الملحة لنقل الهبة الجماهيرية إلى مستوى الانتفاضة الشاملة ببرنامج وقيادة موحدين، فلا أقل من وقف المهاترات والمزايدات والاتهامات المجانية والجاهزة في بعض الحالات، سواء تلك الآتية من أطراف النضال الوطني المنظمة وقياداته تجاه بعضها، أو من جمهوره ومناصريه ونقاده، والذين يكونون في بعض الحالات أكثر فجاجة وتطرفاً.
ذلك لا يعني بأية حال الانتقاص من الحق بالنقد الموضوعي والحق بالتخطيء والمطالبة بالتصحيح والحق بالمحاسبة وكل الحقوق التي تكفلها الأعراف الديمقراطية والمشاركة بالمسؤولية.
إنها ضرورات تغليب اللحظة السياسية المحددة ومتطلباتها على ما عداها من اختلافات وتباينات واجتهادات داخل الإطار الوطني.