استقالة حنان عشراوي وواقع منظمة التحرير

حجم الخط

بقلم هاني المصري

 

 سلّطت استقالة حنان عشراوي من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الضوء على واقع المنظمة، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ولكنها قُزّمت بعد توقيع اتفاق أوسلو من قبل السلطة التي تضخّمت على حسابها، تحت تأثير وهم بأن المفاوضات ستتوصل إلى اتفاق نهائي في موعد أقصاه أيار 1999 وفق ما تم الاتفاق عليه، وبالتالي ستتجسد الدولة الفلسطينية، وتقوم المنظمة بدورها الأخير بالتوقيع باسم الشعب الفلسطيني على الاتفاق النهائي، وتتحول في أحسن الأحوال إلى ما يشبه ما أصبحت عليه الوكالة اليهودية التي تحولت بعد قيام إسرائيل إلى وكالة وظيفتها العمل على تشجيع يهود العالم كله على الهجرة إلى إسرائيل.
لم تطابق حسابات الحقل حسابات البيدر، فلم تلتزم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خصوصًا بعد اغتيال إسحاق رابين، بالتزامات إسرائيل المترتبة على اتفاق أوسلو، فضلًا عن أن الاتفاق لم يتضمن دولة فلسطينية، بل التوصل إلى حل نهائي حول القضايا الأساسية، وهذا يضعها تحت رحمة الاحتلال، في نفس الوقت الذي طالبت فيه الفلسطينيين بتطبيق التزاماتهم من جانب واحد، حتى بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق نهائي ليس فقط بعد 5 سنوات كما نص اتفاق أوسلو، ولا بعد أكثر من 27 سنة على هذا الاتفاق.
وللأمانة، قام الرئيس محمود عباس ومن خلفه قيادة حركة فتح بتفعيل محدود للمنظمة بعد فوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي حتى تعوّض المنظمة عما حصل في السلطة، ولكن هذا التفعيل كان شكليًا، بدليل أن اللجنة التنفيذية عادت إلى الجمود، وأصبحت بشكل فعلي لجنة استشارية لا تتخذ قرارات، لأن رئيسها لا يحضر معظم اجتماعاتها، ولم يفوض أحدًا باتخاذ القرارات في غيابه، وفي حضوره هو الآمر الناهي، حيث يقوم بإعلامها ماذا فعل، وأحيانًا بما ينوي أن يفعل، ما حوّلها إلى منتدى لتبادل الآراء، وأبعد ما تكون عما يجب أن تكون بوصفها المرجعية العليا ومصدر القرار الفلسطيني، وهذا أدى إلى تعليق الجبهة الشعبية العضوية فيها، ويفسر لماذا لم تعقد جلسة مجلس وطني توحيدي بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي التي تؤمن بالشراكة، فما عُقِدَ مجلس انفرادي أضعف دور المنظمة وتمثيلها في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى أن تصبح، قولًا وفعلًا، لجميع الفلسطينيين.
لقد ظهرت عورة المنظمة في مناسبات كثيرة، تبدأ بأن المجلس الوطني لا يعقد جلساته إلا فيما ندر، وقام بالجلسة الأخيرة بتفويض صلاحياته كاملة بشكل غير قانوني للمجلس المركزي، الذي لم يعقد منذ كانون الثاني 2019، وأصبحت موازنتها بندًا صغيرًا في موازنة السلطة، وتمر بأنها اتخذت قرارات على مستوى المجلسين المركزي والوطني واللجنة التنفيذية منذ آذار 2015 فيما يتعلق بالعلاقة مع الاحتلال واتفاق أوسلو والالتزامات المترتبة عليه، وبقيت حبرًا على ورق، وانتهاء باتخاذ قرار التحلل من الاتفاقات في التاسع من أيار الماضي والتراجع عنه بعد حوالي ستة أشهر، من دون الرجوع إلى المنظمة، ولا إلى أي مؤسسة فصائلية، ولا حتى إلى الحكومة.
ووصل الأمر باللجنة التنفيذية أنها لم تعقد اجتماعًا منذ فترة، حتى بعد وفاة صائب عريقات، أمين سرّها، واستقالة حنان عشراوي منها، التي تم التعامل معها بصورة مسيئة لها وللمنظمة، رغم أنها قامت بدور قيادي فيها على أعلى مستوى منذ العام 2009 وحتى الآن.
جاءت استقالة عشراوي، المسببة، متأخرة جدًا، ويمكن تسجيل ملاحظات على أدائها داخل اللجنة التنفيذية وخارجها، لجهة عدم إثارة الانتقادات للسياسات الخاطئة المعتمدة، ولتهميش المنظمة، ولكن أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي أبدًا، فهي تعدّ أول عضو يقدم استقالته من اللجنة التنفيذية، وهذه بادرة تستحق الثناء. وما طرحته صحيح جدًا بخصوص أن المنظمة بلا صلاحيات، وأضيف بأن القرار الفلسطيني في المنظمة والسلطة يتخذ من قبل الرئيس وعدد من مساعديه بعيدًا عن المؤسسات والفصائل، ما يجعل القرارات ردود أفعال وغير مدروسة وتجريبية وانتقائية، ولا تعبر عن المجموع الوطني والمصلحة العامة، بل تعكس موقف ومصلحة مجموعة أشخاص، والبنية والشريحة اللتين يستندون إليهما.
وجاءت الاستقالة لتدق مرة أخرى ناقوس الخطر، لأن القضية والأرض والشعب والمنظمة تتعرض لمخاطر وجودية، ويجب التعامل معها بكل جدية ومسؤولية بدلًا من إبقاء القديم على حاله رغم أنه أوصلنا إلى الكارثة التي نعيش فيها، ولا مجال لتجاوزها من دون تغيير جذري شامل بأسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان.
حنان عشراوي لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنها من أفضل الشخصيات التي قدمت الرواية الفلسطينية منذ عشرات السنين، خصوصًا عند الغرب، فأذكر أنني حينما زرت الولايات المتحدة الأميركية لأول مرة، في العام 2002، لاحظت أن الأميركيين على المستويين الرسمي والنخبوي والناس العاديين يقولون لك عندما يعرفون أنك فلسطيني بأنهم يعرفون عن القضية الفلسطينية من الفلسطينيين من ياسر عرفات وحنان عشراوي.
أنا لست من دعاة المقاطعة للمؤسسات شرط أن تكون مؤسسات، ولو بالحد الأدنى، ولكن مؤسسات السلطة والمنظمة لا تملك من المؤسسات سوى الاسم، خصوصًا مع عدم التجديد والإصلاح، وغياب المساءلة والمحاسبة والمشاركة، وحل المجلس التشريعي، وتعويم مؤسسات المنظمة. وإذا استمرت منظمة التحرير على ما هي عليه الآن، فلن يمضي وقت طويل قبل أن تصبح من الماضي ونسيًا منسيًا. وحتى تعود إليها الحياة، لا بد من إعادة إحياء المشروع الوطني ووضع الإستراتيجيات والبرامج والخطط القريبة والبعيدة الكفيلة بتحقيق الأهداف والمصالح والطموحات الفلسطينية.
وما سبق لن يتحقق من دون إعادة بناء مؤسسات المنظمة على أساس المشروع الوطني بكل مكوناته، والمراجعة الشاملة والجريئة للتجارب السابقة، واستخلاص الدروس والعبر، وعلى أسس وطنية ومشاركة حقيقية ودبمقراطية توافقية تناسب مرحلة التحرر الوطني التي يعيشها الشعب الفلسطيني، بصورة تجعل القضية الفلسطينية قادرة على الصمود والبقاء حية والتقدم على طريق الانتصار.
كما يتطلب أن تبادر المنظمة لأخذ دورها القيادي، وإعادة السلطة إلى حجمها الطبيعي كإحدى أدوات المنظمة والبرنامج الوطني، وألا تبقى المنظمة بكل قياداتها ودوائرها تحت بسطار الاحتلال، بل لا بد من توزيعها على مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني.
ولمن يقول إن هذا مستحيل، لأن الدول العربية والأجنبية لن تقبل، مثلما يقول بأن كل الحلول انتهت لأنها باتت مستحيلة التحقيق، فعليه أن يتنحى جانبًا، لأن الأهداف والأحلام الكبيرة لا تفصّل على مقاس ما يريده الأعداء والممكن وغير الممكن وموازين القوى الماثلة في هذه المرحلة، وإنما على أساس الحقوق والعدالة. فكلمة مستحيل، كما قال نابليون، لا توجد إلا في قاموس الجبناء، وأن التاريخ سلسلة لا نهاية لها من صناعة المستحيلات.
من المفهوم أن القيادات والقوى المتحكمة والبنية القائمة وعلاقات القوة الماثلة لن تسمح طواعية وبسهولة تحقيق التغيير المطلوب، ما يلقي بهذه المسؤولية على الشعب وطلائعه التي يجب أن تناضل لإحداث التغيير وخلق الأدوات القادرة على تحقيق المهمات المطلوبة.
إنّ عقد اجتماع المجلس المركزي القادم، المتوقع في أوائل العام القادم، والمفترض أن يكون على جدول أعماله مناقشة التطورات والتحديات الجسيمة التي تمر بها القضية الفلسطينية، قد يكون الفرصة الأخيرة، فإذا تم فيه تكريس القديم والمسار الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، فسيكون بمنزلة إعلان وفاة للمنظمة.
وأما إذا اتخذ المجلس المركزي سلسلة مواقف وخطوات إيجابية، فيكون البداية لإعادة المنظمة إلى دورها ومكانتها كممثل للفلسطينيين، وذلك في سياق تغيير المسار، وإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة ضمن حل الرزمة الشاملة المتكاملة التي تطبق بالتزامن والتوازي، عبر الدعوة إلى حوار وطني شامل بأوسع مشاركة من ممثلي القطاعات والتجمعات والمرأة والشباب والشتات لوضع خارطة طريق للإنقاذ الوطني، ويمكن البدء بتغيير قوام اللجنة التنفيذية بشكل جوهري، ومن خلال سد الشواغر الحادثة نتيجة وفاة صائب عريقات واستقالة حنان عشراوي، والسعي لتفعيل مشاركة الجبهة الشعبية، ومشاركة المبادرة الوطنية، تمهيدًا لعقد مجلس وطني توحيدي يضم الجميع بأسرع ما يمكن، بطريقة توحي بالشروع الجدي في التغيير، الذي يبدأ بمنع التدهور، ووضع الإستراتيجيات القادرة على السير إلى الأمام.