26 تشرين الأول 2015
الانتفاضة المقدسية العنيفة والبطولية التي خاضها شبان فلسطين في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وفي الداخل الفلسطيني، أعادت تدوير البوصلة إلى حيث يجب أن تكون، وأرجعت مسألة العلاقة مع إسرائيل إلى نصابها الحقيقي: مقاومة ضد محتل مستعمر استيطاني. جاءت الانتفاضة في وقتها لأنها قالت الكثير ولأنها عنت الكثير. جاءت تحمل رسالة راسخة ومتجددة تؤكد خسران الرهان الصهيوني على قدوم أجيال فلسطينية عزيمتها أقل من أجيال النكبة والفداء والثورة، أجيال سوف تنسى ما حدث وتقبل بالوضع القائم الذي أساسه الهزيمة وقبول اشتراطات المستوطن الكولونيالي.
في قلب التفكير الاسرائيلي الصهيوني تكمن المراهنة على الزمن الذي سوف يعمل، بحسب الأمنيات الصهيونية، على خفوت الحقوق الفلسطينية، وخفوت المطالبة بها خلال عقود من اللجوء والشتات أو تثبيت الأمر الواقع العسكري والاحتلالي الباطش.
من هاجر ولجأ إلى خارج فلسطين لن يستطيع أن ينقل حرارة اللجوء والانتماء والذاكرة إلى الجيل الذي يولد في المهجر، ولم ير يوما القرى والمدن والأرض التي يحدثه عنها الآباء.
سوف تشتغل آلة النسيان الجبروتية وتُدمج الأجيال الفلسطينية الجديدة في عوالم بعيدا عن فلسطين.
أما تلك الأجيال التي تولد في داخلها، فتشتغل عليها آلة التهجير المباشر وغير المباشر، لطردهم تدريجيا من البلاد.
الهبة المقدسية الراهنة لطمت هذه الأطروحة الصهيونية في وجهها، وأجبرت الغالبية من الاسرائيليين على تأييد الانسحاب من القدس الشرقية.
لسان حال الشبان الذين حموا الحلم الفلسطيني يقول: كيف تأملون منا النسيان، وتطلبون من يهود العالم بأسره أن يتذكروا أساطير وخرافات مر عليها ثلاثة آلاف سنة، ويحملوها ليأتوا إلى أرض فلسطين.
الأطروحة الصهيونية بالغة الوقاحة لأنها هي ذاتها قائمة على الذاكرة وتقديسها رغم خرافاتها، وفي الآن ذاته تطلب من الفلسطينيين أن يقوم مستقبلهم على النسيان.
اللطمة الثانية التي وجهتها الهبة الشبابية المقدسية في وجه الفكرة الصهيونية تأتي من زاوية تكسير نظرية «الجدار الحديد»، التي جاء بها فلاديمير جابوتنسكي، أحد قادة الفكر الصهيوني المتطرف، في عشرينيات القرن الماضي. جابوتنسكي قال إن عرب فلسطين لن يقبلوا بمستوطنين غرباء يأتون من أقاصي الأرض ويأخذون أرضهم، وسوف يقاومون بكل قوة.
ولهذا لا بد من إخضاعهم بالقوة الجبارة حتى يفهموا أن بينهم وبين هؤلاء القادمين جداراً من الحديد لا يمكن قهره ولا اختراقه.
وهم، أي الفلسطينيين، لن يهدأ لهم بال ولن تخفت مقاومتهم إلا بعد أن يدموا رؤوسهم وهم يضربونها في الجدار الحديد، ويقتنعون بالهزيمة. بعدها، وبعدها فقط، يمكن التفاوض معهم وبحسب شروطنا نحن.
نظرية جابوتنسكي هذه احتلت مع الزمن قلب الاستراتيجيات الاسرائيلية، يمينها ويسارها، وأثمرت لاحقا اتفاق أوسلو الذي جاء بحسب المقاس الاسرائيلي طولا وعرضا.
كل ما جاء ويجيء خارج النص «الأوسلوي» خاصة بعد فشله المدوي، من انتفاضات، من حروب غزة المتلاحقة، من المقاومة السلمية أو غير السلمية، وصولا إلى الهبة المقدسية، هو تمرد على نظرية الجدار الحديد وإعلان بأنها لم تنجح ولن تنجح طالما هناك شعب حي في فلسطين وأجيال شابة متمسكة بفكرة المقاومة والهوية الوطنية.
الرسالة الأساسية الثانية لهذه الهبة التي تعيد وصل حلقات الانتفاض والمقاومة ضد إسرائيل واحتلالها هي عفويتها الشعبية وانطلاقها من قلب الرفض الفلسطيني العارم، بعيدا عن القيادات السلطوية، والحزبية، وغيرها. لم توجه أي بيانات صادرة لاحقا بعد أن تفاجأ أصحابها بما يحدث على الأرض، ولم يستطع ولا يستطيع أحد أن يعلن امتلاكه أو قيادته لها.
بل ربما امكن لنا أن نقرأ على هامش متنها الأساسي المقاوم، إدانة مبطنة لكل تلك القيادات التي خيبت آمال الفلسطينيين على أكثر من صعيد، أهمها صعيد بناء التوافق الفلسطيني وإنهاء الانقسام الذي قدم خدمة تاريخية لإسرائيل لم تكن تحلم بها.
الانتفاضة المقدسية اشتغلت بعيدا عن الزحام السياسي والتنافسي والتفاوضي والأوسلوي، وتوجهت نحو البوصلة الحقيقية والعدو الحقيقي.
الرسالة الثالثة إقليمية تعيد ترتيب مسألة الأولويات والقضايا، وتعمل على إعادة فلسطين وقضيتها وحقوقها على رأس الأجندة السياسية.
في غمار الحروب والتنافسات الإقليمية والحطام الذي ينتشر في المنطقة ضاعت فلسطين، وتحالفت التدخلات الخارجية وحروبها، مع الغباء الأصولي والأطماع الإيرانية المتعاظمة على إزاحة فلسطين عن المشهد، وإحلال قائمة طويلة من القضايا والأزمات التي شغلت الدول والرأي العام.
يتحمل أولئك جميعا ومن دون استثناء إغراقنا وإغراق المنطقة في وحل الصراعات والحروب الداخلية التي لا طعم لها، والتي كلها خدمت ولا تزال تخدم إسرائيل.
انتفاضة القدس وشبانها في طول وعرض فلسطين أعادت وهج فلسطين ومركزيتها إلى تلك الأجندة التي لا تني تريد التخلص من عبء تلك القضية والانتهاء منها.
رسالة الانتفاضة للجميع، بمن فيهم بعض العرب الذين بلغ عندهم «الملل» من فلسطين درجة التخلي عنها والتركيز على غيرها من القضايا، تقول إن دفن الرؤوس في الرمال ليس باستراتيجية، وانه ما لم تتحقق الحقوق الفلسطينية في التحرير وحق تقرير المصير، فإن المنطقة كلها لن ترتاح أو تنعم بالاستقرار.
الرسالة الرابعة للهبة المقدسية البطولية كانت دولية، وهي نسخة موسعة عن الرسالة الإقليمية، وموجهة لصناع القرار في دول المتروبول، وهم في جلهم ممن يريدون الانتهاء من فلسطين وقضيتها، أو تناسيها، والالتهاء بالأجندات الأخرى التي كانت في مجملها نتيجة سياساتهم الخرقاء.
انتفاضة القدس أربكت الإهمال الدولي وألقت خطابا من ساحات القدس كان أهم من كل خطاباتنا فوق كل المنابر، جوهره أن الحقوق الفلسطينية لا يمكن أن يتم نسيانها، ومن دون أن تنجز على الأرض فإنه لا استقرار في المنطقة، وان كل مرحلة وكل جيل من أجيال فلسطين عنده العبقرية الخاصة به لمواصلة المقاومة من أجل تلك الحقوق، وضد مغتصبيها الاحتلاليين ومن يعاضدهم ويؤيدهم من قريب أو بعيد.