انتفاضة على طريق الانتصار أم للاستثمار؟

20150609113506
حجم الخط

 حققت الموجة الانتفاضية الحاليّة إنجازات كبرى، أهمها أنها أعادت الروح للقضية الفلسطينية، ووحدت الشعب، وامتلك زمام المبادرة مجددًا، وفرضت قضيته على الأجندة الدولية، وأعادت الاعتبار للمقاومة، وبدأت بحفر قبر "اتفاق أوسلو" عمليًا، وليس من خلال تهديدات لفظية فارغة. كما أعطت رسالة قوية لإسرائيل بأن احتلالها لن يبقى مربحًا إلى الأبد، وإنما يمكن أن يصبح مكلفًا جدًا بدليل حالة الذعر وانعدام الأمن التي تعيشها حاليًا، وأن مخططاتها بكي الوعي الفلسطيني وفصل وضم القدس وفصل قطاع غزة لم تنجح، فها هو جيل أوسلو يرفع راية الكفاح الوطني مجددًا.
كما حققت المقاومة الفلسطينية خلال تاريخها الطويل إنجازات مهمة، أبرزها بقاء نصف الشعب الفلسطيني صامدًا على أرض وطنه، وإبقاء القضية الفلسطينية حية بالرغم من كل المؤامرات والحروب والمجازر، إضافة إلى بلورة كيان وطني جامع يجسد الهوية الوطنية ويمثل الشعب الفلسطيني أينما كان، مع أن هذا الإنجاز تراجع بعد تهميش منظمة التحرير وتغييبها منذ توقيع "اتفاق أوسلو"، ولم تعد عمليًا الممثل الشرعي والوحيد وقائدة النضال الفلسطيني، إلا أن هذه الإنجازات أقل بكثير من مستوى الصمود والبطولات والتضحيات التي جسدها الشعب الفلسطيني.
إن الاستنتاج من المقارنة بين نتائج الانتفاضتين مع الفرق النوعي بينهما ونتائج مجمل التجارب والثورات الفلسطينية يُظهِر أن الخلل كان في القيادة التي لم تحسن التصرف، على الأقل منذ أن تصورت أن التسوية على الأبواب وأن الدولة على مرمى حجر، ولم تكن بمستوى طموحات الشعب ونضالاته، بل اتبعت سياسة لم تكن بمستوى التحديات والمخاطر، ولم تقدر على الاستفادة من الفرص المتاحة، بالرغم من أنها قادت مرحلة النهوض العظيم، وأنجزت الاعتراف الفلسطيني والعربي والأممي بأن فلسطين رافعة راية التحرر الوطني العالمي، وأن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
لم يكن الخلل سابقًا ولا اليوم بعسكرة الانتفاضة أو سلميتها، بالرغم من أن هذا الموضوع يحتمل الكثير من النقاش والخلاف، وإنما في القيادة ووعيها وأدائها وإرادتها، وغياب وتغييب المؤسسة والشعب، وتغلغل التضخم والمحسوبية والشللية والجهوية والعشائرية والفساد إلى مختلف إداراتها، إضافة إلى أنها خلطت التكتيكي بالإستراتيجي والممكن بالمستحيل، ومحاولة طرف قطف ثمار الانتفاضة قبل نضجها، بحجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وأن شيئًا أفضل من لا شيء، بينما يسعى الطرف الآخر للتعامل مع الانتفاضة وكأنها غاية بحد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق غاية، أي أن الهدف لديه هو إبقاء جذوة المقاومة مشتعلة، وتحقيق مكاسب داخلية وفئوية.
لا أبالغ في القول إن أهم الأسباب التي أدت إلى تأخير اندلاع الانتفاضة الثالثة أن الجمهور الفلسطيني يخشى من أن يكون مصيرها شبيه بسابقتيها العظيمتين، غير أن نتائجهما كانت وخيمة (فوضى وفلتان أمني وإمعان في نهج المفاوضات والتنازلات)، وذلك جرّاء أخطاء القيادة وسعيها للاستثمار السريع، إضافة إلى تعدد الإستراتيجيات والقيادات ومصادر القرار في الانتفاضتين الأولى والثانية، الذي مهد الطريق لوقوع الانقسام المدمر.
إن السعي لقطف ثمار الانتفاضة قبل نضجها أدى – حتى الآن - إلى ما انتهى إليه الحراك السياسي بعد جولة بان كي مون وجون كيري واجتماع الرباعية من نتائج وخيمة، فقد أعطى الشرعية للسيادة الإسرائيلية على حساب الأوقاف الأردنية والفلسطينية. وهذا طبيعي، لأن منطلقات هذا التحرك اعتمدت على المساواة بين الضحية والجلاد، وروّجت لما يسمى "حق إسرائيل" في الدفاع عن نفسها في وجه "الاٍرهاب" الفلسطيني، بالرغم من أن إسرائيل وفق القانون الدولي والشرعية الدولية دولة محتلة ومعتدية، وقامت بتوسيع الاستيطان، وتمعن بالتمييز العنصري، وتحاول تغيير الحقائق وتزييف التاريخ.
المسألة ليست دينية تتعلق بالسماح بالصلاة للمسلمين وزيارة غير المسلمين لـ "جبل الهيكل" كما جاء في بيان نتنياهو، ما يعطي الشرعية للتقسيم الزماني وللاعتداءات اليومية ضد الأقصى، و"بموافقته" على تركيب كاميرات لمراقبة كل ما يجري، بل مسألة سيادة، إذ أصبح الأمر كله بعد الحراك السياسي الأخير في يد إسرائيل من دون رعاية أردنية للأوقاف وبلا دور فلسطيني. 
حتى ندرك خطورة ما سبق، لا بد أن نشير إلى أن الأمم المتحدة والإدارة الأميركية  تستخدمان منذ فترة في بيانات رسمية عند الإشارة إلى المسجد الأقصى (المسجد الأقصى/جبل الهيكل) دون احتجاج من أحد، مع أنه مخالف لما هو وارد في القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي من المفترض أن تكون ملزمة – على الأقل - للأمين العام للأمم المتحدة والمؤسسات الدولية.
إن الاستثمار الصحيح للنضال يمكن أن يتحقق إذا كانت هناك أولًا رؤية شاملة توضح أين نقف وماذا نريد أن نحقق، وخارطة طريق متكاملة توضح كيف يمكن تحقيق ما نريد وضمن أي مراحل. وثانيًا، تحديد هدف قابل للتحقيق في كل مرحلة يتم الكفاح لتحقيقه دون ثمن باهظ، وبشرط ألا يكون على حساب الهدف النهائي والحقوق الأساسية.
قلنا وما زلنا نقول ونحن أكثر قناعة الآن بعد أربعة أسابيع على بدء الموجة الانتفاضية، أنها حتى تغدو انتفاضة شعبية شاملة قادرة على الانتصار فهي بحاجة إلى هدف قابل للتحقيق، وقيادة مؤمنة بها ومستعدة لدفع ثمن النضال، وروافع سياسية وتنظيمية واقتصادية وفكرية، وإلى جبهة وطنية عريضة قادرة على تعميق الطابع الشعبي للانتفاضة، بحيث تصبح انتفاضة الشعب كله.
أما إذا تمت قيادة "الانتفاضة" الحالية مثل قيادة النضالات السابقة فإن النتيجة ستكون مثل النتائج السابقة، ومن عظمة هذه الانتفاضة أنها اندلعت دون قرار من أحد، وأن الفصائل لم تسارع إلى قيادتها خشية منها، ولعدم الاستعداد لدفع الثمن إذا قادتها. فالمسألة ليست رفض قيادة الفصائل للانتفاضة، وإنما امتناع الفصائل عن قيادتها لأنها ترهلت وشاخت وفقدت قدراتها على القيادة من دون ظهور قيادة جديدة حتى الآن.
إن من يدعي أبوة الانتفاضة وأنه يستطيع إيقافها متى شاء أو أن يسيطر عليها، إنما يفعل ذلك في محاولة لمصادرتها من دون بذل مساعٍ حقيقية لقيادتها، فمن يدعي قيادتها عليه أن يفسر: لماذا عجز عن وقفها أو تهدئتها أو حصرها في مظاهرات في مراكز المدن كما يتم التنظير، وكيف سيسيطر عليها في القدس الخارجة عن سيطرة السلطة وهي مركز الانتفاضة المشتعلة، على الأقل منذ قتل وحرق محمد أبو خضير وحتى الآن، وما ينطبق على القدس ينطبق على مناطق (ج) وإلى حد ما على مناطق (ب).
لا يستطيع أحد السيطرة على الانتفاضة، لأن أحد سماتها حتى الآن أنها انتفاضة أفراد استخدمت الوسائل المتاحة مثل الطعن بالسكاكين والدهس، كونها لا تملك غيرها، ولأنها ليست من فعل تنظيمات لديها إمكانيات تمكنها من استخدام وسائل وأشكال عمل ونضال أكثر فاعلية وانتظامًا وأقل تضحية، بينما يشارك فيها أعضاء الفصائل، وفي بعض المواقع بفعالية، ولكن دون رؤية وخطة وهدف ودون الجرأة على قيادتها من فصائلهم.
هناك أمل أعادته هذه "الانتفاضة"، وهو أن الشعب لا يزال مصممًا على تحقيق أهدافه بالرغم من الأثمان الغالية، ولم يعد قادرًا على الانتظار، وأن القيادة الجديدة للمرحلة المقبلة يمكن أن تنبثق من رحم هذه الموجة الانتفاضية وأخواتها الآتيات حتمًا عاجلًا أم آجلًا، لأن "الانتفاضة الثالثة" كما نلاحظ مما يجري، وكما نستقرأ ستأخذ شكل الموجات، ما تكاد واحدة منها أن تنحسر إلى وتبدأ الأخرى بالصعود، وذلك لأن هناك انقسامًا حول جدوى الانتفاضة ومعارضة القيادة لها وعجز الفصائل عن قيادتها. ولن تتمكن القيادة التي قادت المرحلة السابقة وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من قيادة المرحلة الجديدة، فمن الخلل العقلي كما قال ألبرت آينشتاين "خوض التجارب واستخدام نفس الأدوات والأفكار وتوقع نتائج مغايرة".