الإسلاميون في المغرب.. انتكاسة موجعة

حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

 لم تتوقف الإنتقادات الجارحة عن مهاجمة الرسميات العربية، التى هرولت في اتجاه التطبيع، حيث كانت ردَّات الشعوب والنخب الفكرية والقوى الوطنية قوية في غضبتها واحتجاجها على الدول التى طأطأت منكبيها وأناخت أقدامها لضغوظ الإدارة الأمريكية وسياسات الرئيس ترامب، فكشفت عن ساقيها لمجرمي الحرب الإسرائيليين ليطأوا كرامتها، ويدوسوا كبرياء ديارها وأَعراضها وكرامتها الوطنية، وينتهكوا بصلفٍ حُرمات عروبتها، وتعلو أقدامهم فوق شرفها القومي وعزة انتمائها لأمة الإسلام .

كانت مراهناتنا -نحن الإسلامين- كبيرة على الشارع العربي أن يلفظ أمثال هؤلاء الساسة المُطبعين وأنظمة حكمها المتسلطة، التى لم تُعطِ وزناً لشعوبها، وأن كلَّ  ما يهمها -للأسف-هو رضا السيد الأمريكي؛ المنحاز سياسياً وعسكرياً وأممياً لإسرائيل .

نعم؛ إن حالة الشعوب قد تراجعت كثيراً بعد انتكاسة الربيع العربي، وعاود الطغيان من جديد ليفرد عضلات أجهزته الأمنية، فيما الشعوب قد التزمت قادتها وجمعياتها الدينية والحقوقية الصمت علي مضض؛ لأن "ممالك وجمهويات الخوف" بثَّت من مشاهد الظلم والقهر والعصا الغليظة ما أرعبها، من خلال ما قامت به من حملات الإعتقال الواسعة، وعمليات القتل والاستهداف لنشطاء الحركات الشعبية، وما توعدت به كل من يرفع عقيرته محتجاً من أصحاب الفكر والقلم وتوعدها له ،بقطع رزقه وملاحقته أمنياً!!

 بعد توقيع الإمارات والبحرين اتفاقيات التطبيع مع دولة الإحتلال، تناقلت وسائل الإعلام وتهامست النخب السياسية بأن هناك دولاً أخرى على الخريطة العربية قادمة، وهي تتجهز للتطبيع مع إسرائيل قبل مغادرة إدارة ترامب لمشهد الحكم والسياسة، وكان من بين هذه الدول التي جاء ذكرها كلّ من المغرب والسودان!! وهما بلدان للإسلاميين فيهما شأنٌ كبير، من ناحية قوة الشارع وهيبة المكانة.. فالسودان كان تحت حكم الإسلاميين لأكثر من ثلاثين عاماً، وتأسست فيه بيئة إسلامية حاضنة للقضية الفلسطينة ورافضة لإسرائيل؛ دولة الاحتلال المارقة، كما أن السودان هو معقل قمة اللاءات الثلاث: "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل" في أغسطس 1967. أما المغرب، فالإسلاميون فيه هم اليوم في صدارة مشهد الحكم، وكانت مواقفهم دائماً رافضة لأيّ شكلٍ من أشكال التطبيع مع الكيان الإسرائيلي المحتل، وقد عبَّروا عن  ذلك من خلال الكثير من المواقف والتصريحات والحشود الشعبية والمظاهرات المليونية المؤيدة والداعمة للقضية الفلسطينة، حيث إن حركة "التوحيد والإصلاح" الحاضنة للقاعدة الجماهيرية للإسلاميين في المغرب، وحزب "العدالة والتمنية"؛ الممثل لذراعهم السياسي، أظهرا من قوة المواقف والمبدئية الإسلامية ما لا يضاهيه أحدٌ آخر في عالمنا العربي والإسلامي إلا الإسلاميين والمناصرين لهم في الجزائر وتركيا. ولذلك، كنا نُشكّك -بنبرة مُطمئة- في احتمالية خضوع السودان أو المغرب لمثل هذه الهرولة المذِّلة باتجاه التطبيع، حيث إن حدة سيف الجماهير، المعبأة عروبياً وإسلامياً بعدم مشروعية هذا الكيان الغاصب، ستردع زعامات تلك الأنظمة من إتخاذ مثل هذه الخطوة .

للأسف، أخطأنا في توقعاتنا، وأصابتنا انتكاسةُ الإسلاميين في هذين البلدين العربيين بصدمة "تسونامي" مذهلة من الإحباط وخيبة الأمل، حيث هزَّت ثقتنا بأنفسنا كإسلاميين وبالشعارت التى نرددها، ونُعلِّي بها الرايات، وما زال الكثيرون من شعوب أمتنا تستظل مواقفهم بها، كون فلسطين وقضيتها وقداستها توطنت في أذهان كلِّ هؤلاء؛ باعتبارها "القضية المركزية" لهذه الأمة من طنجة الي جاكرتا.

همسةُ وجعٍ وعتاب..

لإخواننا في المغرب الشقيق؛ سواء في حركة "الإصلاح والتوحيد" أو حزب "العدالة والتنمية"، لقد أصبتمونا كفلسطينين بطعنة وخيبة أملٍ كبيرة، وأما مشروع الأمة الإسلامية تجاه قضيتها المركزية فلسطين فقد أصيب هو الآخر بمقتلة، ومُني بهزيمة نكراء، يصعب علينا –كفلسطينيين وكإسلاميين- الدفاع عن كلِّ من تسبب فيها. لقد عهدناكم كإسلاميين من أصحاب المواقف ورجالات المبادئ، ومن شعبٍ أصيل تعوَّدَ الوقوف خلفكم لِما أنتم عليه من دعم وتأييد ونُصرة للقضية الفلسطينية، ولكنكم اليوم –واأسفاه- فتحتم ثغرة للآخرين ليلحقوا بكم، ويلتحفوا بنفس ذرائعكم، رغم إدراكنا وتقديرنا لمواقف الاعتراض وبيانات الرفض، التي أصدرتها حركة "التوحيد والإصلاح" وشبيبة "العدالة والتنمية"، وباقي الجماعات الإسلامية في المغرب منددة بخطوة الحزب وولوغه في مستنقع التطبيع.

إننا كفلسطينيين نَكنُّ للشعب المغربي ولحركاته الإسلامية والقومية العروبية كل الحب والتقدير لمواقفهم التاريخية معنا ومع قضيتنا، ولكننا نقول لإخواننا في حزب "العدالة والتنمية"، وللأخوين اللذين تجمعنا بهما علاقات وصداقة خاصة؛ دكتور سعد الدين العثماني والأستاذ عبد الله بن كيران ولكلِّ من اصطف إلى جانبهما من رموز وقيادات إسلامية: لقد خسرتما مكانتكما كأحد أعلام الحركة الإسلامية وقادتها السياسية على مستوى الأمة، وحاصرتمونناا -من حيث غاب الاحتساب والتقدير- في دائرة خانقة من الحرج والإحباط، ليس من السهولة محاولة الخروج منها، وأضعتما بهذا الموقف نسيج "عروتنا الوثقى" كإسلاميين، وفتحتما باباً للجدل وخطر الفتنة، التي نسأل الله أن يقينا شرها.. لقد كنَّا نقول إنه كان يكفيكما الإنسحاب من الحكومة، التى أنتم في ائتلاف معها، وأن تقوما كحزبٍ بتسليم "أمانة الحكم" للملك، والاعتذار عن الاستمرار في حملها؛ لأن "كُلفة التطبيع" على مكانتكما وهيبتكما وحركتكما عالية، ولا يمكنكما بأيِّ حال تحملها، وأن تصطفا أنتما والحزب إلى جانب الشارع الإسلامي والوطني الذي جاء بكما للحكم، والإنضمام –ولو على استحياء- لكلِّ الرافضين لتلك العملية المهينة، وليس الظهور كـ"شاهد زور" ذليل، يستجدي في تبريره –متلعثماً- لكلمات النخوة والكرامة فلا يجدها!

لا شكَّ أن انسحابكم كإسلاميين من صدارة مشهد الحكم والسياسة، وعودتكم كحزب لصفوف المعارضة، كان سيسجل لكما –كحركة وحزب إسلامي- موقفاً تفتخرون به في بلادكم وبلاد المسلمين، ويكون لنا نحن الإسلاميين في فلسطين وباقي بلاد الأمتين العربية والإسلامية "حجة بالغة"، نقيمها على الأنظمة المستبدة من دول الخنوع والتبعية للغرب، والتى هرولت للتطبيع الذليل مع دولة الاحتلال، بادِّعاء أن ذلك هو مصلحة للفلسطينين وللسلام في المنطقة!! ونقطع بذلك دابرَ كلّ هؤلاء الذين طعنونا في "مقتلة"، ونمنح دعاة المشروع الإسلامي جُرعةً من الفخر والاعتزاز بحركاتهم ومشروعهم الإسلامي، الذى كانت قضية فلسطين ونكبة أهلها سبباً وحقيقياً في تعاظم قوته وسرعة انتشاره.

أما إخواننا الإسلاميون في السودان، فهم الآخرون كانوا محطةً للانتقاد والشعور بالخيبة، لعجزهم عن القيام بأي احتجاجات ترد العسكر وتردعهم من التجرؤ حتى لمجرد التفكير بهذه المسألة.

لقد أثبتت الثلاثون سنة من تصدر الإسلاميين لمشهد الحكم والسياسية في السودان أنهم مجرد "فقَّاعة" ولا خير في كثير من اللاءات التى أطلقوها لرفض دولة الإحتلال الصهيوني، ولا قيمة لنخوة النُصرة الكاذبة التى أظهروها مع إخوانهم المضطهدين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وعليه؛ فإننا كإسلاميين ما نزال ننظر للتطبيع باعتباره مسألة "خيانة" للأمة العربية، ولأصحاب المشروع الإسلامي في كل مكان، وليس هناك أية إنجازات سياسية لصالح الفلسطينيين يُمكن المحاججة بها، وتقديمها كذرائع لتبرير مثل هذه الهرولات المذِّلة للتطبيع مع إسرائيل لأي واحدٍ منهم.

لإخواننا الإسلاميين في المغرب، نقولها لكم بصراحة وجلاء: إن حركة حماس التى أحبتكم وأشادت طويلاً بمواقفكم، لها اليوم أكثر من عتب عليكم، ونحن أيضاً كإسلاميين نستشرف اليوم مشاهد مستقبلكم ونراه رأى العين، أنكم ستخسرون في قادم الأيام الكثير من ثقة جموعكم، ومن ثقلكم الانتخابي في الشارع المغربي، خلال أية منافسات قادمة على مشهد الحكم والسياسة.

للأسف، لقد تمَّ استخدامكم، والرهان على أن "لُعاعات الدنيا" -يإغراءاتها وخوف خسارتها- ستلوي أعناقكم، وأن "سيف المعز وذهبه" سيطوي تحت جناحيه كلَّ لاءاتكم، وسيأتي بكم طائعين.

للأسف؛ نجحت المراهنة وانتهت اللعبة، وستجدون أنفسكم -ليس بعيداً- على قارعة الطريق. وحيئذ لا ينفع ولات حين مناص.