شيء من الإنسانية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

في كل عيد مسيحي من كل عام، ينقسم جمهور المسلمين بين من يرسل بطاقات التهنئة للإخوة المسيحيين، متمنياً لهم عاماً مباركاً طيباً.. وبين يمتنع عن ذلك، بل ويستنكر قيام غيره بالتهنئة.  
الأمر ذاته يتكرر كلما مات شخص غير مسلم، سواء كان قائداً سياسياً، أو فناناً، أو أديباً، أو شخصية عامة، أو حتى لو كان شيخاً مسلماً لكنه يمتلك رؤية ومنهجاً مختلفاً عمّا هو سائد، أو مسلماً لكنه علماني.. في هذه الحالة أيضاً ينقسم الجمهور بين من يترحّم عليه، داعياً له بالمغفرة ولروحه السلام.. وبين من يمتنع عن ذلك، بل ويصب عليه اللعنات.
لن نناقش الموضوع من وجهة نظر فقهية، ذلك لأن لكل من الفريقين حجته وبرهانه اللذين استقاهما من الأدلة الشرعية، فهناك علماء دين مسلمون ومشايخ وفقهاء أفتوا بجواز التهنئة والتبريك لغير المسلمين في مناسباتهم وأعيادهم الدينية، وأفتوا بجواز الترحّم على كل ميت، بصرف النظر عن دينه وتاريخه الشخصي.. وهناك فقهاء ومشايخ يقولون العكس.. لذلك، لن نتوصل إلى نتيجة ولن نحصل على إجابات حاسمة.
جاء في الحديث الشريف: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ».
وفي حديث آخر: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»..
إذاً، هنالك موقفان متعارضان، وحديث شريف يقول: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ».. حديث يحث كل مؤمن على الاحتكام لعقله وقلبه، مطمئناً إلى أن كل مؤمن ذو قلب سليم، وعقل حكيم سينحاز إلى فطرته النقية، وإلى داخله الإنساني الخيّر، وسيتخذ القرار الصائب.
بعبارة أخرى؛ لدينا إزاء كل قضية خلافية موقف إنساني، منفتح، متسامح.. وموقف متعصب متزمت، يستند إلى فهم محدود للنص.
لدينا موقف يقول إن مصير المتوفى بيد خالقه، إن شاء رحمه وغفر له، وإن شاء عذبه بذنوبه، وهذا الخالق يتصف بالعدل والعلم والرحمة، والمسألة من اختصاصه وحده، ولا يحتاج لمن يرشده، أو يملي عليه أمنياته.. وقد قال في محكم تنزيله: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ».
مقابل من يقولون إن مصير كل متوفى لم يكن على دينهم، أو كان من طائفة أخرى، أو تعارضت أفكاره مع أفكارهم.. مصيره المؤكد جهنم وبئس المصير.
لدينا مسلم يعتبر أن تهنئة المسيحي (أو غيره من أتباع الديانات) لا تعني تبنّي عقيدته، بل تعني احترامه لذلك الشخص بصفته إنساناً أولاً، أو جاراً في نفس الحي، أو زميلاً في العمل أو الدراسة، أو صديقاً منذ أيام الطفولة، أو شريكاً في المجتمع، ومواطناً في نفس الدولة.. أي أنه يتعامل معه بصفته إنساناً ومواطناً بصرف النظر عن دينه وطائفته.. وذلك هو الموقف الطبيعي المتصالح مع الإنسانية، المنفتح على الآخرين.. والمنسجم مع الروح السمحة للدين.
مقابل مسلم يعتبر أن كل شخص ليس من دينه (وبالتحديد إذا لم يكن من طائفته)، هو إما ضال يرجو له الهداية، أو كافر يجب التبرؤ منه، ومعاداته.. وتلك هي العنصرية الاستعلائية، التي تضع صاحبها في مرتبة يرى نفسه فوق سائر البشر، وأنه وحده من يمتلك الحقيقة الدينية.
قال تعالى: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً».. أي أن التعددية والاختلاف بين البشر هما قانون الطبيعة، وناموس الكون، الذي ارتضاه الله لكل الناس. وقال: «أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. أي أن الإيمان مسألة مقترنة بحرية الفكر، وليس بالإجبار.
فإذا كانت رحمة الله قد وسعت كل شيء، فلماذا يريد البعض تحجيمها إلى حدود النزعات البشرية، التي تحتمل الكراهية والأنانية وضيق الأفق.. وطالما أن الله خلق البشر مختلفين، فلماذا يريد البعض جعلهم كتلة واحدة متناسقة متشابهة.. وبما أن الإيمان خيار طوعي وحر، فلماذا يريدون جعله قهرياً.
في السياق ذاته، في كل مناسبة عالمية (رأس السنة الميلادية، عيد الحب، عيد الأم، عيد الشجرة، وكذلك الفعاليات الرياضية والفنية الدولية..) نجد من يرى تلك الأعياد والمناسبات حدثاً عالمياً، اتفقت عليه أغلبية شعوب الأرض، بمختلف أديانها وأعراقها.. مقابل من يراها مناسبات غربية، نصرانية، وبالتالي الاحتفاء بها تقليد أعمى للغرب «الكافر».
الأول يرى نفسه جزءا من المجتمع الإنساني برمته، ومتصالحاً معه.. والثاني يقسّم العالم إلى فسطاطي الحق والباطل، ويريد من المليار مسلم معاداة السبعة مليارات إنسان الذين نتقاسم معهم كوكب الأرض.
إذاً، الخلاف نشأ من طريقة فهم الدين، وكيفية فهم النص، وتأويله.. وهذا الخلاف قائم منذ زمن بعيد، لكنه تعمّق مع انتشار الفكر الوهابي السلفي، المتزمت، المتعصب والذي يتخذ موقفاً متشدداً تحريمياً إزاء معظم القضايا، وموقفاً متشنجاً تجاه رموز الجمال والاحتفاء بالحياة.
وقد أخذ هذا التيار السلفي الماضوي، بفكره الجاف والمتحجر يضرب معاني وقيم الإنسانية، فصار ينشر الفكر الطائفي، ويبث الفرقة بين المؤمنين، ويغذي خطاب الكراهية، خاصة بتبنيه مبدأ «الولاء والبراء»، ومعاداة كل ما لا يشبهه..
فتراه مثلاً يؤمن بأن المسلم يجوز له الزواج من الكتابية، والإنجاب منها، لكن لا يجوز له أن يقول لها: كل عام وأنت بخير، أو ميلاد مجيد.
حب الناس أجمعين، وتمني الخير للآخرين، والتسامح، والتعايش على قدم المساواة، وحسن المعشر، وحلو الكلام.. كلها قيم أخلاقية، والأخلاق نشأت وتطورت وتهذبت مع تقدم الإنسانية، ومع التحضر.. وجاءت الأديان لتكمل وتعزز الأخلاق، وتسمو بالروح الإنسانية.. لكن هذا التيار السلفي المتزمت والمتطرف (وهو أيضاً موجود في بقية الأديان) يريد النكوص بالقيم الإنسانية، وتفصيلها على مقاسه العنصري الطائفي، وعند مستوى إدراكه المحدود والبدائي..
الأخلاق من صميم الإنسانية، والإنسانية وجدت قبل الأديان، وفي الحديث الشريف: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».