بلطجي برتبة رئيس

حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

شئنا أم أبينا، سيظل دونالد ترامب يذكر في التاريخ على أنه رئيس أميركي، بل الرئيسُ الخامس والأربعون، رغم أن عهده شهد تصرفات غير معتادة، بل غير مألوفة في التاريخ الأميركي.
فلم يحدث من قبل أن تمنّع رئيس خاسر في الانتخابات عن رفض نتيجة الاقتراع الديمقراطي بمثل هذه الصلافة التي تمتع بها ترامب، فهو منذ أن بدأت الولايات في إعلان نتيجة الاقتراع وهو يشكك في النتائج التي جاءت في غير صالحه، لدرجة أنه اتهم ست ولايات بالفساد والتزوير، رغم أن عدداً منها يحكمها ولاة جمهوريون، أي ينتمون للحزب الذي ينتمي هو إليه، ولجأ إلى القضاء برفع عشرات القضايا التي خسرها، فلم يتورع عن اتهام القضاء أيضاً.
وواصل ترامب ادعاءاته الكاذبة، إلى أن عقد المجلس الانتخابي مجلسه الذي أيد نتائج الولايات المعلنة، حيث تأكد فوز خصمه الرئيس المنتخب بواقع 306 أصوات في المجمع الانتخابي مقابل 232 له، فيما كان فارق التصويت الشعبي كاسحاً، ولم يسبق له مثيل وتجاوز فارق الخمسة ملايين ناخب، ورغم أنه كان قد تعهد شخصياً بالإقرار بخسارته الانتخابات في حال أيد المجمع الانتخابي النتيجة، إلا أنه لم يلتزم بذلك، ومارس كل ضغط ممكن على أعضاء المجمع من حزبه الجمهوري، ثم حيث إن المحطة الأخيرة تمثلت في جلسة الكونغرس بشقيه الشيوخ والنواب قبل حفل التنصيب بأسبوعين، قام بتحريض المئات من المتطرفين لاقتحام الكونغرس في حادثة هي الأولى من نوعها، تشبه إلى حد كبير ما يحدث في دول العالم الثالث، كمحاولة انقلابية كما قال أحد نواب الكونغرس الجمهوريين، وكان المشهد مأساوياً في حق الديمقراطية الأميركية.
طوال الوقت وخلال نحو عشرة أسابيع تفصل بين إعلان نتائج الاقتراع ودخول الرئيس المنتخب للبيت الأبيض، لم يدعم ترامب ادعاءاته الكاذبة بأي دليل قضائي، وظل طوال الوقت يغرد خارج سرب المنطق عبر صفحته على تويتر، مؤججاً الداخل ودافعاً له لأتون حرب أهلية، حتى شهد حزبه الجمهوري انقسامات واضحة بين من يتفهم موقفه وبين من يرفضه جملة وتفصيلاً، وفي المحطة الأخيرة، كان يسعى إلى دفع نائبه وشريكه في البيت الأبيض مايك بنس، كونه الرئيس الشرفي لمجلس الشيوخ، لاتخاذ قرار النقض وعدم المصادقة على مصادقة الكونغرس.
ماذا يعني كل ذلك، يعني بكل وضوح، عدم رضوخ الرئيس الخامس والأربعين لإرادة الشعب، وعدم قبول نتيجة العملية الديمقراطية، فقط لأنها جاءت في غير صالحه، فإن لم يكن هذا استبداداً وبلطجة سياسية، فماذا يكون غير ذلك ؟ وإذا لم يكن بايدن هو الرئيس الفائز، فمن يكون الرئيس؟ أهو ترامب الخاسر، أم أن فراغاً في الحكم هو الحل، أم بنس أم من ؟
قد يتم طرد ترامب في نهاية الأمر من البيت الأبيض بالقوة، بشكل مهين لرئيس أميركي، لكن ذلك يفضح بشكل جلي ما قام به ذلك الرئيس المتطرف والمستبد والذي إن كان لا يحترم خيار شعبه، فكيف له أن يحترم الآخرين، خاصة خارج حدود بلاده، وهذا يكشف المدى الذي انطوت عليه سياساته ومن ثم «منجزاته» الخارجية ومنها تلك التي اتخذها تجاه الشعب الفلسطيني، إن كانت تلك الخاصة بالقدس، أو الجولان أو الاستيطان، وصولاً لما تحقق من «تطبيع» خارج حدود الحل السياسي للصراع مع إسرائيل في المنطقة، أو بينها وبين فلسطين والعرب.
وإذا كان الرئيس المنتخب جو بايدن قال تعقيباً على اجتياح متطرفي ترامب الكونغرس، إن سنواته الأربع القادمة، ستكون هي سنوات استعادة الديمقراطية، فنحن نقول، إن تلك السنوات يجب أن تكون أيضاً بمثابة مراجعة أو عودة عن سياسات ترامب الخارجية، ليس تلك الخاصة بالملف الإيراني، ولكن تلك التي تخص الملف الفلسطيني أيضاً، فهي ألحقت الضرر البالغ بفرص السلام في المنطقة، وعززت من اليمين والتطرف في إسرائيل، وخير دليل على ذلك جعل حل الدولتين أمراً بالغ الصعوبة مع اجتياحات المستوطنين الإسرائيليين الذين يقومون كل يوم بالهجوم على الأرض والشعب الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، بما يشبه اجتياج متطرفي ترامب للكونغرس، وإن كان بدرجة أشد وأقسى.
وما لم تقم مؤسسات الدولة الأميركية، خاصة الأمنية لمنع الرئيس بعد أن جن جنونه مع بقاء أيام قليلة فقط على خروجه من بيت السلطة، باحتمال أن يشعل الحرب في الخليج، نزولاً عند تحريض صديقه اليميني المتطرف في إسرائيل، بنيامين نتنياهو، فإن بعض الأمور الحسنة بدأت تظهر في أفق الشرق الأوسط، ما بعد رحيل كابوس ترامب، ونشير بذلك إلى المصالحة الخليجية، حيث شهدت فترة ترامب حالة العداء بين الأشقاء، لتحقيق مصلحة العدو الإسرائيلي، وما إن لاح في الأفق زوال غمة ترامب حتى، انبلج صبح الخليج على رأب الصدع بين الأشقاء، وهكذا يبدو الأمر أيضاً فيما يخص الملف الداخلي الفلسطيني، فهناك أخبار تشير إلى أن مركب إنهاء المصالحة، قد تحرك بهدف الوصول لمحطته الأخيرة.
في حقيقة الأمر يبدو أنه كان لا بد أن تصل الأمور إلى نهاياتها مهما بدت قاسية، فمنذ ثلاثة عقود، على انتهاء الحرب الباردة، تغير العالم كله، إلا الولايات المتحدة، التي نامت على حرير الفوز بالحرب، لدرجة أنها اعتقدت بأن العالم كله بات تحت سيطرتها، ما إن قامت بتفكيك الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، ولم تدرك بعد أن مياهاً كثيرة جرت في عروق الكون، وأن هناك أقطاباً ظهرت، كقوى اقتصادية وحتى عسكرية، وأن عالم اليوم لم يعد قابلاً للسيطرة لا لدولة ولا لقومية، كما أن دول نظام حكم الفرد في العالم الثالث لم تعد تقبل بسيطرة ذلك النظام.
مضطرة إذاً الولايات المتحدة لقبول علاقات دولية أكثر توازناً، وعلى قاعدة الشراكة وحتى الندية، وإدارة العالم وفق مصالح مشتركة، وليس على قاعدة تسييره وفق المصلحة الأميركية فقط، أو وفق مصلحة الأقوياء والأثرياء في آن واحد، وهذا ينطبق على كل ملفات العالم الساخنة، فليس منطقياً مثلاً أن يقبل العالم بدول بعينها تمتلك السلاح النووي ويمنعها عن أخرى، وتحديداً يقبله لإسرائيل وحتى خارج المساءلة والرقابة النووية الدولية ويمنعه عن إيران مثلاً، وليس مقبولاً أن يواصل الانحياز لإسرائيل والحفاظ على أمنها والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، وبل ومنع أسباب القوة حتى عن حلفاء إسرائيل وأميركا في المنطقة، فعالم اليوم بات أكثر استعداداً للمساواة بين الدول والشعوب، ويفضل مكاناً لكل البشر على هذه الأرض، فيما القوة العسكرية خاصة، لم تعد قادرة على فرض شروطها، أو على الأقل تواجه مقاومة بقوة القانون والمنطق الإنساني.