عن «زلزال» التطبيع الذي ضرب الجماعة الإخوانية في وحدتها وسرديتها

حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي

 

 

أحدث «زلزال» تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، سلسلة من الهزات الارتدادية التي ضربت الجماعات الإخوانية في عدد من الدول العربية، وأظهر «هشاشة» وحدتها الإيديولوجية، بل ومنظومتها الفكرية والتنظيمية، بعد أن غردت كل واحدة منها، وفقاً لما تقتضيه مصالحها «الحزبية/الفئوية»، وأحياناً «المصالح القطرية» لدولتها الوطنية، والتي طالما وضعتها الجماعة – الأم، في مرتبة ثانية، مُقَدِمة عليها «مصالح الأمة»، والمقصود بالأمة هنا: الأمة الإسلامية على اتساعها.
وتتكشف مواقف الجماعات الإخوانية، من قضية بمنتهى الأهمية والحساسية، كالقضية الفلسطينية وإسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي، بعامة، عن مفارقات نافرة، لا بد أن تسترعي انتباه المراقب لسلوك هذه الجماعات والمتتبع لـ»سرديّاتها» المتوارثة طوال عقود وأجيال من عمر أقدم الجماعات السياسية – الدينية في المنطقة العربية، وسنتوقف هنا عند ثلاث منها:
الأولى؛ وتتصل باختلاف مواقف الجماعة باختلاف مواقعها، فالجماعة في السلطة غيرها في المعارضة.. وهنا يحضر المثال الأكثر سطوعاً على «فداحة» هذه المفارقة، ويتعلق بالجماعة الأم، في مصر، والتي طالما ناهضت مسار السلام العربي – الإسرائيلي، بدءاً بزيارة السادات لإسرائيل (1977) وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد (1979)، مروراً بمسار مدريد – أوسلو – وادي عربة، ولطالما اصطفت إلى جانب حركة حماس (الفرع الفلسطيني للجماعة) في مواجهة السلطة، وأيدت عملياتها ضد إسرائيل، امتداداً لموقف تاريخي للجماعة، عبرت عنه بمشاركتها في الحرب العربية – الإسرائيلية العام 1948 على جبهة غزة – العريش.
طوال سنيّ الصراع الممتدة من 1948 وحتى العام 2012، ظلّت الجماعة في خندق المعارضة المصرية، وتعرضت للملاحقة والحظر ومختلف أنواع الضغوط من قبل الأنظمة المصرية المتعاقبة، وحافظت على موقفها من إسرائيل و»المسألة الفلسطينية»، إلى أن حدث الانقلاب الأكبر في تاريخ الجماعة، عندما نجحت في إيصال الدكتور محمد مرسي إلى رأس السلطة في مصر، فكان أن تغير الموقف بتبدل الموقع.. لم تقدم الجماعة على اتخاذ أي خطوات من شأنها المسّ بالمعاهدة المصرية – الإسرائيلية، وحافظت على «وتائر طبيعية» للعلاقة مع إسرائيل، وقامت بدور «الوسيط» بين حماس وإسرائيل على جبهة غزة، وجرى تعيين سفير مصري جديد بدل المنتهية ولايته في إسرائيل، أما رسالة الراحل مرسي إلى شمعون بيريس، التي بدأها بعبارة «صديقي العظيم» وأنهاها بتوقيع «المخلص»، فتنهض شاهداً على اختلاف المواقف باختلاف المواقع، أو كما يقول المثل الشعبي الأردني: «حديث السرايا غير حديث القرايا».
التجربة ذاتها، يُعاد إنتاجها بكثير من التشابه، ولكن في المغرب هذه المرة، فحزب العدالة والتنمية الذي شكّل حكومات ما بعد أحداث شباط 2011 في المغرب، لطالما اتخذت مواقف شديدة العداء لإسرائيل، وقاطعة في رفضها لأي مظهر من مظاهر التطبيع مع إسرائيل، سواء صدر عن المغرب أو أي دولة عربية وإسلامية أخرى، حتى أن رئيس الحزب، لم يتردد في إدانة موجة التطبيع الأخيرة التي اشتملت على الإمارات والبحرين والسودان، متعهداً بأن بلاده، لن تلتحق بهذه «القاطرة» وأنها باقية على مواقفها من إسرائيل و»المسألة الفلسطينية».
إلى أن حدثت «الصفقة»، فكان الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، نظير قيام الرباط بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.. هنا، صدرت الإرادة الملكية بالترحيب بالعرض الأميركي، فما كان من الحزب «الحاكم» إلا أن صدع بما يؤمر، ضارباً عرض الحائط، بـ «ركام» التصريحات والمواقف السابقة.. ساعياً في تبرير هذا الموقف، لا لرغبة في البقاء في السلطة، بل لدوافع «وطنية» في المقام الأول والأخير، وتتعلق بتعزيز موقف بلاده في الصراع مع الجزائر و»بوليساريو» حول مستقبل الصحراء الغربية.. والحقيقة أنه لا يمكن التقليل من شأن هذا العامل في تغيير مواقف الحزب من هذه المسألة، لكن إجماع المراقبين المغاربة يقول: إن الحزب ما كان ليتخذ هذا الموقف، لو أنه ما زال يجلس على مقاعد المعارضة.
المفارقة الثانية؛ وتتعلق بالتمييز بين تطبيع «مقبول» وآخر «مرذول».. هنا، تبدو المفارقة أكثر تفاقماً في مواقف حماس، وبعض الحركات الإسلامية (الإخوانية) على وجه الخصوص.. فحماس لا تمانع في تطبيع قطر لعلاقاتها مع إسرائيل، طالما أنها أكثر من غيرها، من يتلقى «ثمار» هذه العلاقة من خلال «دور الوسيط» الذي تلعبه الدوحة بين الحركة وإسرائيل، وسماح الأخيرة للأولى بتمرير أموال المساعدات، وأحياناً رواتب موظفين إلى قطاع غزة.. ولعل صورة الدورية الإسرائيلية المحمّلة بملايين الدولارات من «الكاش القطري» إلى مندوبي حماس على الجهة الأخرى من «حاجز إيرز» تكفي للبرهنة على «تهافت» سردية المعارضة المبدئية الصارمة لسياسات التطبيع.
أما العلاقات الناشطة بين تركيا وإسرائيل، والتي قال فيها أردوغان مؤخراً، إنها لم تنقطع يوماً، أقله على المستوى الاستخباري – الأمني، فضلاً عن ارتفاع أرقام التجارة التركية العابرة لميناء حيفا، ورغبة الزعيم التركي في تطويرها وتوسيع آفاقها، فهي لم تثر حفيظة حماس، كما أنها لم تجد أي ردة فعل منتقدة أو غاضبة، من أي من الجماعات الإخوانية في المنطقة.. ما دعانا للتعبير عن حالة «الازدواج» و»الانفصام» في مواقف الجماعة من مسألة بهذا القدر من الأهمية والحساسية، إذ قلنا ذات مقال: إنهم يميزون بين «تطبيع شرعي» و»تطبيع حرام»!
تأخذ جماعات إخوانية على الإمارات أنها ذهبت بعيداً في تطبيعها مع إسرائيل، وأن شركاتها ستدخل في مناقصات لخصخصة ميناء حيفا، من دون أن تأتي على ذكر، أن المنافس الأهم والأكبر للشركات الإماراتية على ميناء حيفا، هي الشركات التركية.. هنا يُدرك «شهرزاد الإخوانية» الصباح، وتتوقف عن قول الكلام المباح.. الخلاصة، أن موقف الجماعة من «التطبيع» لا ينطلق من «رفض مبدئي/عقائدي» بقدر ما يتعلق بهوية الأطراف العربية والإسلامية المُطبعة.
المفارقة الثالثة؛ وتتقاطع مع المفارقتين الأولى والثانية، وتتمثل في تغليب «الوطني» على الأممي»، بخلاف مأثور الخطاب والسرديات الإخوانية، التي طالما أعلت من شأن «الأممية الإسلامية»، وقدّمت المصالح الإسلامية على المصالح القومية، و»القومية» بذاتها، مفهوم «مرذول» في خطاب الحركات الإسلامية، ويعد تحريضاً على شق صفوف الأمة، وإثارة «الفتن» و»القلاقل» في أوساطها.. الأمثلة على المفارقة، لا تعد ولا تحصى: إخوان البحرين نددوا بتطبيع الإمارات مع إسرائيل، ولاذوا بصمت القبور، عندما التحقت حكومة بلادهم بالركب الإماراتي وأبرمت «اتفاقات أبراهام»، حتى أن متحدثين باسمهم، عبروا عن تفهم عميق لدوافع المملكة و»الأسباب الموجبة» لخطواتها هذه.
قلنا إن إسلاميي المغرب، نددوا بموجات التطبيع المتعاقبة، بما فيها الموجة الأخيرة، ولكن عندما اكتشفوا أن لبلادهم «مصلحة وطنية» في التطبيع، أو على الأقل، هكذا يزعمون، كانوا في صدارة المدافعين عن السياسات الملكية في هذا المضمار.. في المقابل، يشن إسلاميو الجزائر «حمس وأخواتها»، حملات «تخوين» و»تكفير» ليس للسياسة المغربية التي يضطلع الملك بدور رئيس في صياغتها، بل بمواقف أشقائهم في الجماعة والحركة الإسلامية.
أما الجماعات الأخرى، وتحديداً تلك التي ما زالت في خنادق المعارضة، وتقيم علاقات ملتبسة مع حكومات بلادها وأنظمتها (الأردن على سبيل المثال)، فما زالت على مواقفها التاريخية «التقليدية» من فلسطين وإسرائيل والتطبيع، وما زالت تقود صفوف الاحتجاجات على المعاهدة و»صفقة الغاز» وتدعو لإغلاق السفارات وسحب السفراء.. لا أحد يعلم علم اليقين، متى وكيف ستتأثر مواقف الجماعة الأردنية، بارتدادات «الزلزال» الذي ضرب بقية الجماعات.. لكن من الآن يمكن القول إن سلوك الجماعة الأردنية لن يختلف عن سلوك شقيقاتها في مصر والمغرب، طالما أنها بدورها، تلزم جانب الصمت على العلاقات الناشطة، بين إسرائيل من جهة، وكل من قطر وتركيا من جهة ثانية.. يعني ذلك باختصار، أن الموقف من التطبيع، لا يخضع لمفاهيم «الحلال والحرام» و»القواعد الشرعية» بقدر ما يخضع لمعايير براغماتية، بوصفه قضية سياسية، تحتمل التغيير والتبديل.
وأخيراً، يمكن القول إن زلزال التطبيع الذي ضرب الجماعة الإخوانية، يظهر مرة أخرة زيف «الأساطير» التي تحيط بحكاية «التنظيم الدولي» للجماعة، بوصفه «هيئة أركان» أو «غرفة عمليات» للجماعة، فقد أظهر «التنظيم» ضعفاً مزرياً في قبضته على الفروع، مرات ومرات، ولطالما تفلتت الجماعات من قبضته الفكرية والتنظيمية، ولدينا شواهد عدة على ذلك، منها قرار الجماعة العراقية الانخراط في العملية السياسية التي أعقبت إسقاط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبرعاية بول بريمر، في الوقت الذي اتخذت فيه الجماعة الأم، والتنظيم الدولي، أشد المواقف تنديداً وإدانة بالحرب الأميركية على العراق.. اليوم، تظهر «قبضة التنظيم الدولي» أكثر هشاشة، والجماعات تخوض غمار مراجعات واسعة لمواقفها من «أرض الوقف»، وفقاً لقاموسها الخاص حول فلسطين والقدس والصراع العربي – الإسرائيلي.