"الثقافة" ما بين تقديس الماضي وافلاس الواقع

غانم
حجم الخط

الثقافة كلمة كبيرة ذات معنى واسع تناولها الفلاسفة والمفكرين بالتعريف والشرح على مر العصور ، لإدراكهم العميق أهميتها في بناء الذات وحيويتها في فهم الكون و أحداثه وتقلباته ... فالثقافة هي ذلك الكل المركب من المفاهيم والمصطلحات والعلوم التي من خلالها بإمكان الفرد بناء تصورات ذات معنى لكل ما يدور حوله ، حيث انها بمعناها الشامل تعطي قدرة للانسان على صناعة مستقبله والتخطيط لحياته ،هذا ناهيك عن معرفة ماضيه والتجارب التاريخية كثيرة في قيادة النخب المثقفة للاحداث ومجابهة التحديات التي تعصف بالمجتمعات والشعوب ، ومن هنا تكمن أهمية المثقف .

لقد رسخت الثورة الفرنسية لابتداء عصر التنوير وتطبيق مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة وتقديس القوانين وصولا الى العقد الاجتماعي الشهير الذي رسم العلاقة بين الفرد والسلطة في صورة عقد يتم فسخه بالاخلال بأحد عناصره ،على أن يتنازل الفرد عن جزء من حريته لصالح السلطة السياسية مقابل توفير الامن والغذاء ومتطلبات الحياة المختلفة .

لعل تركيزنا على أهمية الثقافة في بناء الانسان السوي ، المتوافق مع بيئته ومجتمعه ينبع من ادراكنا العميق للأزمة البنيوية التي يعاني منها الوطن العربي عموما والمجتمع الفلسطيني خصوصا ، فنحن أمة تقدس تاريخها حد العبادة ، وترسم هالة من الأساطير عن تراثها وتاريخها في صورة مذهلة جعلت من الجمود واجترار تشوهات التاريخ على انها الحقيقة المقدسة التي يجب اعادة انتاجها .

ان ظهور أزمة الممارسة السياسية عبر تاريخنا الطويل جعل من حالات المراجعة النقدية حالة نشاز وغير مرحب بها ، هذا ناهيك عن ملاحقة المصلحين المنادين بالعدالة وقتلهم ، مما أدى الى فقدان تدريجي للوعي التاريخي والوعي الذاتي وعزلة الافراد واغترابهم عن واقع حياتهم .

هذا بالاضافة لاستحضار الأنا الدموية في مشاهد لم تحدث منذ محاكم التفتتيش ،واحداث التطهير العرقي !! على أن ذلك يدفعنا لمحاولة فهم الصيرورة التاريخية والسياق التاريخي لهذه الافعال الشوفونية التي لا يمكن فصلها على الاطار التاريخي النظري .

في قراءتنا للتاريخ الاسلامي نجد الكثير من الأحداث المفزعة والحروب التي لا مبرر لها غير الهيمنة والاستبداد تحت شعارات تستدعي القبيلة احيانا والدين في اغلب الاحيان .

لذا نصل الى نتيجة أساسية بضرورة المراجعة النقدية للتاريخ ليس لاجترار الاخطاء او لمجرد الترف الفكري ، انما لفهم الكثير من الازمات التي تعصف بمنطقتنا والعالم ، برغم ان كثير من النخب تمنع على نفسها مجرد الاقتراب من الماضي .

في حالة ولدت فوبيا من الماضي على افتراض انه من المقدسات والمحرمات في ثقافتنا العربية.

في القراءات المستفيضة لتجارب الشعوب الاخرى يتبين لنا كل يوم حجم الفارق الحضاري الكبير الذي يقدره اصحاب الاختصاص بمئات السنوات .. فهلا قرعنا جدران ثقافتنا قبل ان تخنقنا بأساطيرها لندخل العصر بعقولنا لا بعقول الأقدمين ؟!! أتمنى ذلك ...