ربما كانت مصر بحاجة ماسة اكثر من اي شيء آخر لمثل هذه الزيارة، منذ زمن ليس بالقصير، لم يشاهد المصريون زعيماً على هذا المستوى يزور عاصمتهم، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعاد للجمهور المصري، زمن مواكب الزعماء الكبار الذين كانوا يزورون القاهرة، طلباً لدور في المنطقة العربية كانت مصر محورها وجوهرها. العبور الى القاهرة عبور الى المنطقة، ربما توارى هذا المفهوم خلال ارتباك السنوات الماضية، لذلك، فإن عبور بوتين الى القاهرة، هو عبور مصر لتجدد شبابها كعنوان لا بد منه للتأثير على عموم منطقتنا العربية، رغم حالة الانشداد الى المآسي والكوارث الناجمة عن متغيرات لم يتوقعها أحد.
كان من اللافت، هذا الاحتفاء بالضيف الروسي الكبير في العاصمة المصرية، احتفاء غير تقليدي يذكر المصريين باحتفائهم بوصول خروشوف الى القاهرة ثم الى أسوان لافتتاح السد العالي مع الرئيس جمال عبد الناصر، الاحتفاء هذه المرة، كان في دار الأوبرا المصرية بعزف مقطوعات موسيقية روسية: فصل من "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي وختام من فصل من "شهرزاد" للموسيقار الروسي كورساكوف، وما بينهما فنون مصرية بحتة من الفن الصعيدي حتى فن الزار. وكأنما يريد الرئيس المصري السيسي عدم الاكتفاء بالتذكير بالعلاقات التاريخية بين البلدين من خلال السياسة والسلاح، او كان يريد ان يرسل رسالة مفادها ان العلاقات بين اي بلدين لا يمكن ان تكتفي بتبادل المصالح المشتركة على صعيد السياسة والاقتصاد والنفط والغاز والحبوب، بل من خلال تلاقح ثقافي ثمين له ان يعيد صياغة مثل هذه العلاقات النفعية المصلحية الى ما هو اكثر ديمومة، فإذا كانت هناك مصالح لا تدوم، فإن الترابط الثقافي، يدوم ويدوم!!
إلا ان لغة المصالح، لا تزال هي الطاغية على ما عداها، روسيا التي تعاني من عقوبات أميركية وأوروبية على خلفية أحداث أوكرانيا الشرقية، واتهام الغرب لموسكو بانها تعيد رسم خارطة أوروبا بما يتعارض مع المصالح الغربية، روسيا التي تشكل بيضة القبان إزاء ملفين ساخنين في المنطقة العربية والشرق الأوسط، سورية على خلفية الأحداث التي أدت إلى ظهور غير مسبوق للإرهاب، والملف الإيراني على خلفية برنامجها النووي، حجم هذا الدور الروسي للتأثير على الملفين المذكورين يتأثر بقدرتها على العبور إلى المنطقة، خاصة وان إمكانية خسارتها لموانئها العسكرية علي الساحل السوري، تجعلها تبحث عن بديل، قيل ان سواحل جمهورية مصر العربية قد تشكل مثل هذا البديل او الإضافة على الأقل.
ولعل ما يتطلع اليه الروس، يتجاوز الأبعاد المادية والمصالح المباشرة، الى ما هو اهم من ذلك، بعد وصول السيسي الى الحكم وانهيار نظام الإخوان رغم الدعم الأميركي، سادت علاقات وطيدة بين القاهرة وعواصم دول الخليج العربي، الدخول الى القاهرة، هو دخول الى هذه العواصم، بما يعنيه ذلك من مصالح ترتبط بسياسات النفط، وتغطية مالية لصفقات السلاح المنتظرة، الا أن الأهم من ذلك - ربما - هو توافق الطرفين حول الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، ونذكر هنا ان روسيا اعتبرت هذه الجماعة محظورة لديها منذ عام ٢٠٠٣، عندما منعت المحكمة العليا الروسية هذه الجماعة من العمل في جميع أنحاء الاتحاد الروسي باعتبارها منظمة إرهابية محظورة، بالنظر الى ما تشكله من أخطار على الأمن القومي للاتحاد، خاصة بعد ما تبين لدى تلك المحكمة ان جماعة الإخوان تمول وتسلح المتطرفين في شمال القوقاز، وتأثيراتها على الأمن في منطقة الشيشان!! كان ذلك قبل الربيع العربي وقبل وصول الجماعة وانهيار حكمها في مصر بسنوات!!
«من الاستبدال الى التوازن والإضافة» هذا هو جوهر المحاولات المصرية لعدم الإبقاء على علاقة استراتيجية مع طرف من طرفي الحرب الباردة الجديدة، هناك كثير من العوائق التي لا تجعل من الخيار الأميركي كافياً لتوجه مصري نحو واشنطن التي باتت العلاقات معها باردة جداً اثر مواقف الولايات المتحدة من المتغيرات التي جرت اثر ثورتي ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، والشكوك الواضحة حول دور أميركي في تأييد جماعة الأخوان في مصر وعدم وفاء واشنطن بالتزاماتها التسليحية لمصر، لكن دفء العلاقات مع موسكو، ليس خيارا بديلاً بالتأكيد، اذ تظل روسيا اقل تأثيرا في أحداث المنطقة كما انها تعاني من تراجع في قدراتها العسكرية والاقتصادية، إضافة الى أنها ستمتنع عن تصدير القمح هذا العام، علماً ان جمهورية مصر العربية كانت تستورد ٢٠٪ من الإنتاج الروسي من الدقيق وهي ثاني دولة على الصعيد العالمي تستورد هذا المنتج من روسيا، وسيكون على جمهورية مصر العربية ان تشتري القمح من السوق المحلي الروسي وليس عبر صفقات رسمية، وربما تكون هذه المسألة إحدى المسائل الهامة التي يتم تناولها بين القيادتين المصرية والروسية في القاهرة.
وهناك عنصر بالغ الأهمية في خيارات مصر بين واشنطن وموسكو، اذ ان تقلبات الوضع السياسي الأميركي، والاشتباك الدائم بين كونغرس جمهوري وإدارة ديمقراطية، تجعل علاقات واشنطن الخارجية اقل استقرارا وقدرة على اتخاذ خطوات يمكن البناء عليها، الأمر في موسكو مختلف، هناك استقرار في المؤسسة السياسية الحاكمة، يمكن معه الالتزام بالاتفاقات والصفقات، موسكو المعزولة نسبياً بحاجة الى أن تشير الى أن تلك العزلة التي فرضتها أميركا وأوروبا عليها، ليس لها وجود على الصعيد العالمي، وها هو بوتين يبدأ من القاهرة زياراته التي تؤكد على مشهد روسي أكثر تأثيراً وأقل عزلة!!