«كشّرتْ» جريدتنا «الأيام» من يوم الثلاثاء ٢١ الجاري، مع احتجاب ريشة صاحب «أبو العبد» و«أم العبد».
عن رفيق المهنة يقولون «زميل» وبهاء البخاري، شخصاً وريشة، أكثر من زميل لي، فهو كما في لسان العامة «أبو شريك».
عمودي اليومي، ورسمته اليومية «شريكان» في هذه الجريدة.
ماذا يقول الأديب التركي «المنوبل» أو رهان باموق في مؤلفه «اسمي أحمر» يقول: «الشعر شقيق الرسم، واللون شقيق الكلمة».
هو، إذاً، شريكي - شقيقي، فأنا للكلمة اليومية، وهو لريشة الرسم. هو يرسم في هزيع الليل، وأنا أكتب في ظهيرة اليوم.
بين يوم ويوم، أسبوع وآخر، يداهمني بهاء في مكتبي كأنه يتفقدني، هل لقلمي أن يرسم «الهمّ» على وجهه الوسيم؟ همّ الزمالة اليومية - الشراكة، إخوة الريشة مع القلم. الهم الفلسطيني؟
هو في مثل عمري تماماً وأكثر؟ لماذا أكثر؟ لأنه امتشق ريشته في زمن يقارب امتشاقي للقلم. مخضرم مثلي، لكن ضحكته أجمل وأصفى من ضحكتي وأكثر ترداداً بين حكمة وأختها، جملة وأختها .. سوى أنه «شايب» بينما الشيب تأخر قليلاً في غزو فوديّ.
مرتين أو ثلاثاً ساهرته سويعات في مرسمه، في ذروة توتره الابداعي، الذي يشاكل توتري لمّا يتفقدني والقلم في يدي.
مرّة واحدة زرت بيته العائلي - المقدسي في «باب حطة». بيت لصيق للقبة المذهبّة. بيت عريق عراقة جدوده في «الطريقة النقشبندية»، مع عراقته المقدسية، ليس له «هوية زرقاء» بل خضراء مثلي نحتاج تصريحاً.
فلسطينيان يشتركان في طفولة شبابية دمشقية. شام العروبة وقدس الفلسطينيين، فإن قالت لي زوجتي: أنتَ من بين أكثر الفلسطينيين همّاً فلسطينياً، فسأقول: وبهاء من أكثر المقدسيين مقدسية، والفلسطينيين فلسطينية، ومن أكثر الفنانين هماً فلسطينياً. دؤوب مثلي وقد يفوقني دأباً إن كان الرسم يحمّل هماً أكثر من الكتابة.
تجمعنا، أيضاً، هذه السيكارة الملعونة أخت الملعونة، لكنه تزّوجها بأربع علب يومياً، وأنا خطبتها بأقل من علبة يومياً. لي منفضة سكائر واحدة على مكتبي وفي مرسمه منافض ملأى.
ماذا أيضاً؟ هو «مجوأز» (جوائز) عربياً وعالمياً كمان، وأخيراً حمل يوم ٢١ الجاري «وسام الثقافة والعلوم والفنون»، ولي جائزة فلسطين في المقالة وجائزة اتحاد الصحافيين العرب.
بعد صاحب «حنظلة» حمل راية ريشة الكاريكاتير الفلسطيني صديقه وزميله صاحب «أبو العبد». لا يلتفت الولد الشقي «حنظلة» إلى القارئ، ويلتفت «أبو العبد» بعصبته من الكوفية على جبينه، وينظر إلى القارئ غاضباً.
«اللون شقيق الكلمة»، ورسوماته ملونة، لكن بهاء، أيضاً، رسام «بورتريه» للوجوه، وأهداني رسمة لوجهي.
ريادة الكاريكاتير الفلسطيني أخذته، مجنداً، من اللوحة التشكيلية الفلسطينية، وأخذتني الكلمات المجندة للقضية من القصة القصيرة. هذه فريضة النضال.
هو «الرفيق» في النضال، والزميل في العمل، والشريك في الهم، والمواطن في المواطنية .. لكنه المقدسي في الولادة، وأنا الحيفاوي في الولادة - والاثنان شاميان - سوريان في الطفولة والشبوبية.
في بيروت، أواخر السبعينيات، سألت درويش: كيف يحتملك قلبك، لأن الشعر يتسيّد في الهمّ الكلمة واللون والرسمة.
في آخر زيارة لي إلى لندن، أوقفتني ضابطة مراقبة الجوازات؟ صورة طبعة إبهام يدك اليمنى تغيّرت. قلت: ربما من مسحوق غسيل الصحون. لم أقل لأن قلم حبر ناشف «بيغ» لا يفارق يدي اليمنى، لأنها قد تسألني: لماذا لا تنقر على الحاسوب؟
في آخر فحص لقلبي أجراه صديقي د. محمد البطراوي، قال: عضلة القلب جيدة، لا يلزمك فحص جهد للشرايين .. لكن توقف عن لعنة السيكارة.
هل لعنة السيكارة هي من ملأ رئتي صاحب «أبو العبد» بالاستسقاء المائي، وأدخلته غرفة العناية الفائقة، وحجبت ريشته عن الصفحة الأخيرة.
يا بهاء، يا زميلي وصديقي وشريكي «أبو شريك» قال شاعرنا «في صحونكم بقية من عسل» ولو أن عسلنا مرّ!
من آخر رسوماتك يتمنطق «أبو العبد» بحزام الحجارة، وحجارة في يديه، و«نقّافة» في يد عبد، وحجارة في يد «أم العبد»!
الوقت وقتك ووقتي ووقت فلسطين، وهذا أوان شبابك يا فلسطين .. فانهض يا بهاء من سرير المرض، وأمسك ريشتك وابق «أبو شريك». ألا ترى الشباب وحجارتهم في «باب حطة»!