رغم أن حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، لا تتمتع بأغلبية كبيرة في الكنيست _ كما كان حال سابقتها مثلاً _ إلا أنها ما زالت متماسكة وغير قابلة للسقوط، في المدى المنظور على الأقل، ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى حالة أو مستوى «التجانس» بين مركبات أو أحزاب الحكومة، حيث لا يكاد المرء يرى كبير فرق بين حزبي الليكود والبيت اليهودي.
ويبدو أن تمترس نتنياهو في خانة اليمين المتطرف وإغلاقه كل المنافذ على الحل السياسي، هو مفتاحه السحري للبقاء في سدة الحكم، فهو يدرك تماماً، أن أي تراجع عن البناء الاستيطاني أو أي فصل تفاوضي مع الجانب الفلسطيني، يمكن له أن يسقط «حجر سنمّار» الذي تستند عليه الحكومة ويؤدي بالتالي إلى إسقاطها.
وطالما أدار نتنياهو مواجهة محسوبة وتحت السيطرة مع الجانب الفلسطيني، فإنه سيظل قادراً على التحكم بمقاليد ومفاتيح الوضع الداخلي.
وبتقديرنا إنه لن يفعل ما فعله أيهود باراك عام 2000 (وكان باراك عمالياً معارضاً لأوسلو)، بالإقدام على تحطيم أدوات اللعبة بالكامل، وهدم المعبد، بما قد يذهب بالحكم إلى أحد الرجلين المعارضين، هيرتسوغ أو ليبرمان.
في العام 2000 وبسبب من انسداد الأفق، حين أصر أيهود باراك على الذهاب لمفاوضات الحل النهائي دفعة واحدة، ووصل إلى استعصاء مع ياسر عرفات في كامب ديفيد، عاد الرجلان وفي نيتهما اللجوء للمواجهة المفتوحة، لذا ترك باراك مقعد الحكم لصالح شارون وفتح عرفات باب الحكم لـ»حماس»، أما الآن فإن كلاً من محمود عباس وبنيامين نتنياهو وبعد انسداد أفق التفاوض قد تعلما الدرس جيداً، فالرئيس الفلسطيني لا ييأس من الحديث عن انتفاضة شعبية/ سلمية، فيما نتنياهو يعمل وفق سياسة «خطوتان للأمام وخطوة للوراء»؛ فهو يقدم بيد ما يرضي البيت اليهودي وما يشبع نهم المستوطنين / المستعمرين، وفي الوقت ذاته، يعرض تفاوضاً مفتوحاً، ولا يكف عن الحديث عن السلام الاقتصادي أو حتى عن الحل الإقليمي!
صحيح أن «التسخين» الذي بلغ ذروته في الأمم المتحدة قبل شهر، قد نجمت عنه مواجهة شعبية فلسطينية مع الاحتلال والمستوطنين الإسرائيليين، كما يرغب أبو مازن _ لحد الآن، وصحيح أيضاً أن المواجهة ما زالت دون مستوى المواجهة المفتوحة الشاملة، وإلى حد ما تحت السيطرة؛ لأنها تقتصر على مناطق محددة (الخليل والقدس بدرجة أساسية) وصحيح أنها ما زالت تقتصر على مئات الشباب الغاضبين، وصحيح أنها بذلك رفعت منسوب التحذير الفلسطيني، ورغم أن تلك المواجهة ما زالت على هذا الحال، أي دون أن يلقي الجانب الفلسطيني بكل قوته فيها، وأنه لم يذهب بعد لدرجة المقامرة الكلية، إلا أنها أحدثت دوياً هائلاً في أوساط الإسرائيليين.
ولعل أهم ما أحدثته، ليس فقط ما يتعلق بالجانب الأمني؛ حيث إن الجيش الإسرائيلي اضطر لنقل العديد من قواته من جبهتي الشمال والجنوب للقدس والضفة الغربية، ولا ذلك المتعلق بالجانب الاقتصادي، بل إن أهم ما أحدثه شهر من المواجهة - رغم أن الجانب الفلسطيني قد ضحى بنحو سبعين شهيداً، وسبعة آلاف جريح وأكثر من ألف معتقل - هو اهتزاز القناعة الإسرائيلية بإمكانية الاحتفاظ بالقدس!
لا يبدو أن محاولة نتنياهو بعد الاستعانة بجون كيري، التوصل لاتفاق مع الأردن حول الحرم القدسي الشريف - بما عرف بحل الكاميرات - ستكون ناجحة، ليس لأن الخلاف بدأ قبل التنفيذ؛ حيث إن إسرائيل أرادت أن تكون تلك الكاميرات مثل تلك التي كانت في رفح وفق اتفاق 2005، أي تحت إشرافها وبما يحقق لها مراقبة كل ما يحدث داخل الحرم، فيما ظن الجانب الأردني أن الكاميرات ستكون تحت إشرافه بسبب من ولايته على الحرم، ولكن لأن هذا التوافق استند أولاً على ما سمي «بستاتيكو» الحرم، وثانياً لأنه أخرج الجانب الفلسطيني من الحل بعد أن حصره بين الأردن وإسرائيل _ في تقديم ربما لفكرة الحل الإقليمي.
وثالثاً؛ لأنه أبقى على انسداد أفق الحل السياسي، وبالتالي أبقى على «ستاتيكو» الاحتلال الإسرائيلي للحرم وللقدس ولكل الضفة الغربية إلى ما شاء الله.
استطلاعات الرأي الإسرائيلية بعد نحو شهر من المواجهة أشارت إلى تزايد القناعة لدى المواطنين اليهود / الإسرائيليين بضرورة التخلي عن الأحياء العربية في القدس، بل وتسليمها للجانب الفلسطيني، الذي تطورت مطالبه بفعل الانتفاضة الثالثة، إلى المطالبة بالعودة لما كانت عليه الحال العام 2000، وليس لما كان عليه قبل شهر!
ولعل انفلات لسان نتنياهو نفسه، الذي قال، إنه ما زال يعارض حل الدولة الواحدة، لكنه سيبقي السيف في غمده، للسيطرة على أكبر قدر من الأرض، ما يعني بأنه لا يفكر إلا في الفصل العنصري، وفي تحويل إسرائيل إلى «جنوب أفريقيا ثانية».
فإذا كان الرجل يقف حائلاً دون إنهاء الاحتلال ودون حل الدولتين، ويرفض الدولة الواحدة، ويقول علناً، إنه يريد الاحتفاظ بالأرض، فلم يبق أمامه سوى ضم الأرض دون السكان، وهذا يعني بأنه سيكون على هذه الأرض «صنفان» من البشر: مواطنون يهود / إسرائيليون، وبشر يقيمون عليها بلا حقوق سياسية أو مدنية، هم الفلسطينيون.
ولعل خير دليل على الذهاب لهذا الجنون، هو التفكير الإسرائيلي المزدوج، في الوقت نفسه، بإقامة الحواجز والجدران العازلة والفاصلة بين الأحياء العربية واليهودية في القدس، وسحب الهويات الإسرائيلية من سكان القدس، والتي منحت لهم بعد قرار ضم المدينة المقدسة المحتلة بعد احتلالها عام 1967.
ولعله لن يطول الوقت، مع هذه السياسة حتى يتضح تماماً أن إسرائيل، طالما أنها ما زالت ترفض أن ترى الشمس إلا من خلال الغربال، فهي ذاهبة لإقامة جدار برلين جديداً في القدس، يؤكد استحالة «توحيد» المدينة تحت السيادة الإسرائيلية، ويسقط عملياً واحداً من أخطر وأسوأ القرارات الاحتلالية التي اتخذتها في تاريخها، ونعني به قرار الضم آنف الذكر، ويؤكد أن إسرائيل تعمل وفق المثل الذي يقول، إنها كمَّن يهرب من الرمضاء للنار، فيما يؤكد في الوقت ذاته نجاعة لجوء الجانب الفلسطيني لخيار المقاومة الشعبية، التي أتت أؤكلها، وحققت هذا الإنجاز بعد أقل من شهر على انطلاقتها، ووفق منسوب محدود لها، وفي ظل انقسام ما زال قائماً.