زيارة كيري، بالاحرى مهمته، لم تكن اكثر من حركة علاقات عامة.
لم يكن ممكنا ان يأتي من اميركا، غير حركة علاقات عامة تثبت فيها وجودها وتقوم بالمهمة المطلوبة منها في دعم ومساندة، وربما نجدة دولة، الاحتلال الصهيوني.اي شيء غير ذلك يكون خارجا عن طبيعة الامور، وعن طبيعة الانحياز الاميركي الفاضح حتى المهانة لدولة العدو.
كان التناغم عميقا بين تصريحات كيري وبين البيان الصحفي الذي صدر عن نتنياهو. كيري استعمل اسم " جبل الهيكل " عند الحديث عن المسجد الاقصى، وهو نفس الاسم الذي استعمله نتنياهو في بيانه المذكور وفي كل احاديثه الاخرى. لم يكن ذلك من كيري عفو الخاطر بل كان مقصودا بكل حمولته من المعاني والدلالات، بينما جاء استعماله من نتنياهو بانسجام وتوافق مع قناعاته التلمودية.
الكونغرس الاميركي ايضا، قام بدوره وقدم الدعم لمهمة كيري. فقد قرر تجميد تحويل المساعدات الاميركية السنوية الى السلطة الوطنية للعام الحالي بقيمة 37 مليون دولار متعللا بالاوضاع الامنية، وبتحريض السلطة ضد اسرائيل، وهدد، "ان المساعدات مشروطة بالتزام الفلسطينيين اتفاقات اوسلو والتزام السلطة بمحاربة الارهاب والتحريض عليه".
ما يؤكد محدودية مهمة كيري وانحصارها في السعي لانجاز تهدئة تنقذ دولة الاحتلال، انه في جولته لم يقدم اية افكار او مقترحات محددة تفتح الطريق امام اساس سياسي يشكل الاطار الطببيعي لمعالجة القضايا المباشرة التي تطرحها الهبة الجماهيرية، وللتعاطي مع المطالب الوطنية العادلة والملحة للفلسطينيين بشكل عام والتي تتمحور حول انهاء الاحتلال ووقف الاستيطان والدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وما يرتبط بذلك من عناوين هامة اخرى. لقد اكتفى كيري باحاديثه بالعموميات والجمل الخالية من اي تحديد او التزام.
في بيانه الصحافي لم يأت نتنياهو باي جديد يتعامل مع ما يجري في القدس وكل فلسطين من هبة جماهيرية شاملة ومع مطالبها المحددة، بالذات تجاه القدس والمسجد الاقصى، ولا مع ما تقوم به قواته واجهزته ومستوطنيه من اعدامات مباشرة واعتقالات واعتداءات.بيان نتنياهو اقتصر على تأكيد سياسة حكومته ب " الابقاء على الوضع القائم" في المسجد الاقصى، ويعني به الوضع الذي فرضته وكرسته دولة الاحتلال بعد العام 2000 واعطت فيه لنفسها حق التقرير والتصرف بكل يما يتعلق بامور المسجد الاقصى ان لجهة الصلاة ومن يصلي فيه، او زيارته ومن يتولى تنظيمها، وان لجهة امنه ومن يتولى مسؤوليته، وان لجهة دور الاوقاف الاسلامية وحدود صلاحياتها.
الوضع القائم الذي يعنيه نتنياهو هو الذي ألغى وضعا ظل قائما لمئات السنين، وحتى لما بعد احتلال 67، وتتولى فيه الاوقاف الاسلامية المسؤولية الوحيدة والكاملة عن كل ما يتعلق بالمسجد الاقصى. الوضع القائم الذي يعنيه نتنياهو هو الذي فتح الباب، وما يزال، امام كل الانتهاكات والتعديات على حرمات المسجد الاقصى حتى وصلت الى المطالبة الجدية والخطيرة بالتقسيم الزماني والمكاني. وهو ايضا ما فجر الهبة الجماهيرية الحالية. كما حرص نتنياهو في بيانه التأكيد على " ان حكومته ستواصل تأمين وصول المصلين المسلمين والزوار إلى المسجد الاقصى مع الحفاظ على النظام العام والأمن فيه "، وان كل الاجراءات فيه ستتم " وفقا للمسؤولية الملقاة على عاتق السلطات الإسرائيلية والأوقاف الآردنية ". والاخيرة اضيفت فقط لزوم حركة العلاقات العامة ومحاولة استرضاء الاردن، بدليل رفضه ان تتولى الاوقاف تركيب كاميرات التصوير ومسؤوليتها.
بيان نتنياهو وتعهداته يتركان كل مخارج التملص والارتداد مفتوحة على كامل اتساعها بانتظار ظروف اكثر ملائمة لتحقيق الهدف المرحلي الاساسي الذي لن تتنازل عنه دولة الاحتلال وقوى الاغلبية اليمينية النافذة بالقناعة والطواعية، وهو التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الاقصى.
ورغم ادعاء نتنياهو السعي للتوصل الى تهدئة، فان حكومته واجهزته استمرت بالعمل بكل الاجراءات التي تمارسها يوميا ضد اهل البلاد وشبابها: من الاستمرار في اطلاق يد قوى القمع وتأكيد صلاحيتها في اطلاق النار بنية القتل على ادنى شبهة، بما يشكل اعداما ميدانيا فوريا، الى الاستمرار في الاحتفاظ بجثامين معظم من تعدمهم وعدم تسليمها لأهاليهم لدفنها، الى الاستمرار في سياسية هدم منازل من تعدمهم، الى حملات الاعتقال العشوائي دون اي مسوغات، الى اعتقال اهالي من تعدمهم وفرض غرامات مالية عليهم وعلى اهالي من تعتقلهم، ناهيك عن الاستمرارفي سياسة التوسع بالاستيطان في كل اراضي الضفة الغربية. وزيادة على كل ذلك وغيره، فقد كشفت القناة الثانية الاسرائيلية عن توجه نتياهو لسحب الهويات الزرقاء( الاقامة الدائمة) من المقدسيين خاصة من مخيم شعفاط وكفر عقب والسواحرة وغيرها من الاحياء الموجودة خارج جدار الفصل العنصري بما يصل الى 80 الى 100 الف مواطن مقدسي. هذا التوجه، اذا ما تم اقراره لا يمكن ان يكون اجراءا امنيا بل سياسة تطهير عرقي وعنصرية مخططة.
فعن اي تهدئة بعد كل ذلك، يتحدث نتنياهو وحكومته ومعهم كيري ودولته.
اجمل ما في الامر، ان اهل الهبة الجماهيرية وشبابها، التقطوا بحسهم الوطني المرهف، حقيقة وجوهر حركة العلاقات العامة والمخادعة التي يتناغم بها كيري مع نتياهو. لم ينتظروا موقف السلطة الوطنية منها وكيفية تعاملها معها، وواصلوا هبتهم بنفس الزخم والاستعداد العالي للاستمرار والتضحية والاصرارعلى المطالب.
فعلوا ذلك دونما استئذان من احد، تماما كما فعلوا يوم انطلقوا بهبتهم وفرضوا ايقاعها العفوي والمبادر على الجميع.