عن الانكماش الأميركي

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

بقلم: عاطف أبو سيف

يحتاج الرئيس الأميركي الجديد لجهود كبيرة حتى يكنس كل المتاعب التي جلبها سلفه ترامب للولايات المتحدة بسبب طيشه وقلة خبرته في السياسة الخارجية. وسيترتب على بايدن أن يعمل بشكل مضاعف من أجل ترميم الضرر الذي ألحقه ترامب بالكثير من مصالح الولايات المتحدة في الخارج، كما بصورة الديمقراطية الأميركية في أيامه الأخيرة. وهذه العمل المطلوب بالتأكيد لن يأتي بمعجزة تجعل من الدولة الأكثر فتكاً وظلماً لدول العالم دولة أخلاق وعدالة، ولكن على الأقل سيعيد لها بعض المواقف التي سلبها ترامب ورمى بها في خلاط مزاجه الكهربائي، فصعقت الكثير من أصدقاء واشنطن في العالم. ومن المؤكد أن طيش ترامب سيواصل حضوره في السياسة الأميركية من جهة الأثر الذي سيتركه على مصالح واشنطن وصورتها.
منذ البداية ومن الفريق قليل الخبرة الذي أحاط ترامب به نفسه، اتضحت صورة السياسة الأميركية في المرحلة الجديدة. فأهم ملف خارجي بالنسبة للسياسة الأميركية والمتمثل بملف الشرق الأوسط أوكله إلى صبي عديم الخبرة السياسية والأمنية، كل ما يملكه من خبرة أنه زوج ابنته. عادة الرؤساء أن يأتوا بأكثر السفراء دراية وحنكة ويوكلوا لهم مثل تلك الملفات الساخنة؛ حتى يستطيعوا أن يوازنوا الأمور ويحافظوا على وجهة نظرة واشنطن التاريخية المنحازة لإسرائيل ولكن ببعض الدهاء، لا أن يأتوا بغلام لا يعرف ألف باء السياسة. منذ البداية كانت المؤشرات تدل على الانحطاط القادم في سياسة ترامب.
ليس فقط في الشرق الأوسط، بل ربما لم يترك ترامب وجماعته زاوية في العالم إلا وعاثوا فيها فساداً، وقاموا بقلب الطاولة على كل من يجلس حولها. فمن الصين إلى روسيا إلى أميركا الجنوبية مروراً بالمنطقة العربية، كان ترامب يعبر بسذاجة عن ضحالة منفرة في عالم السياسة. حتى أن حركاته البهلوانية مثلاً حين قام بتوقيع نقل سفارة بلادته إلى القدس وقبل ذلك أيضاً الاعتراف بضم الجولان، كلها تشير إلى تصرفات غير سوية وطيش سياسي. هكذا فإن تلك الصورة القبيحة للسياسة الأميركية التي لم تبدأ مع ترامب، بل منذ صعود نجم واشنطن كقوة دولية في مطالع القرن الماضي بسبب لا أخلاقية سياسة واشنطن، بحاجة للكثير من الاستقامة حتى يتم تعديلها. الاستقامة التي تفقدها السياسة الأميركية من حيث الجوهر، إذ إن آخر شيء يمكن توقعه من واشنطن أن تتصرف بأخلاق ونزاهة في أي قضية دولية. فالديمقراطية حين تضر بمصالح واشنطن فإن أفضل طرق الحكم هي الشمولية، لذا يجب دعم الجنرالات والأمراء القامعين لحريات مواطنيهم، وحقوق الإنسان ليست إلا عبارات نبيلة تتردد في أروقة الكونغرس وهي تعتمد عمّن نتحدث، فليس كل البشر سواء، والحرية مشعل يحمله التمثال الشهير ويجب دعم الأشرار لقمع حرية مواطنيهم؛ لأن هؤلاء الأشرار يدعمون مصالح واشنطن. لا يختلف اثنان في العالم على هذه الصورة حول طبيعة السياسة الأميركية الخارجية، لذا فإن توقع استقامة تلك السياسة وتصحيح مسارها مثل «عشم» إبليس في الجنة، كما تقول جداتنا. وفلسطينياً مثلاً أن نتوقع أن يستيقظ ضمير السيد بايدن ونراه يحاول أن يصوب القليل من الدمار الذي ألحقه ترامب بالحقوق الوطنية الفلسطينية، لا نقول أن يقف مع الشعب الفلسطيني، فهذا حتى في الأحلام لن يحدث، ولكن على الأقل أن يحاول التخفيف من هذا الدمار بين ليلة وضحاها فإنه أيضاً أمر غير وارد. مرة أخرى من ينتظر استقامة السياسة الأميركية ينتظر «غودو»، ولا أحد يجب أن يفعل هذا، ولكن على الأقل فإن على بايدن أن يخفف من وقع أقدامه على مصالح واشنطن.
استكمالاً للنقاش السابق حول الانكماش الأوروبي، فإن الحل الوحيد أمام الرئيس الجديد هو الانكماش. في الحالة الأوروبية، فإن الانكماش كان صيرورة ونتيجة تكامل لم ينضج لأنه اصطدم ببيروقراطية تعفنت في دواليب ماكنة السياسة. في الحالة الأميركية، فإن الانكماش قد يكون الخيار الأفضل لتجنب المزيد من الانهيارات في مصالح واشنطن. وللمفارقة فإن هذا الانكماش يأتي في الوقت الذي يرحب فيه العالم بالرئيس الجديد لأن الرئيس السابق كان أسوأ مما يمكن تخيله أو تحمله. ولكن ومع هذا الترحاب، فإن إطفاء الحريق لن يكون إلا بالابتعاد عن مصدر اللهب. سيبدو الانكماش مغرياً لبادين ورفاقه من أجل أولاً إبعاد واشنطن عن الأزمات لوقت قد لا يطول ومن ثم ترتيب الأوراق بما يسمح بإعادة الاشتباك الخارجي من أجل تأمين مصالحها.
بالطبع، هذا لن يعني انسحاباً أميركياً من الملفات الساخنة ولكنه تخفيف الاحتكاك وتقليل الاشتباك في التفاصيل. وسيكون ملف الشرق الأوسط ملفاً نموذجياً لمثل هذا التغير والتحول؛ إذ إن بايدن لن يشغل باله بكل شاردة وواردة من المنطقة الساخنة. ومع كل ما ألحقه ترامب من أضرار، فإن خلفه سيستفيد من أجل أن ينأى بنفسه عن مخاطر المجازفة بمواقف جديدة، وسيحاول لملمة علاقات واشنطن مع مختلف الأطراف في المنطقة دون أن يدفع أو يضغط بأي اتجاه.
والثابت أن انشغال بايدن الداخلي أيضاً سيكون له أثر في تشجيع التوجه الانكماشي في مجال السياسة الخارجية. تخيلوا صورة أميركا حين يهجم أميركيون على الكونغرس بوحشية تذكرنا بحرب العصابات، تذكروا أنها الحروب التي كانت تصنعها واشنطن في العالم، وتخيلوا أن تلك الصورة ستظل لسنوات في ذاكرة الناس وبالطبع ستبرَع هوليود في استذكارها. وبشكل عام، فإن ثمة الكثير الذي على بادين أن يقوم به خاصة في جبهة داخلية ممزقة وبحاجة للعمل من أجل تصويبها. هذا إلى جانب ملفات أخرى من الاقتصاد والخدمات والإصلاح في بعض الأجهزة الحكومية.
هذا لن يقود إلى انسحاب أميركي من المشهد، بل إلى إعادة تموضع من أجل ترتيب الأوراق، على الأقل في السنوات الأولى للإدارة الجديدة.