– شباب تونس يطالبون بأكثر من الحرية والكرامة

حجم الخط

هآرتس – بقلم تسفي برئيل

انصاف إبنة الـ 33 تعيش في مدينة بنزرت، التي تقع على بعد 65 كم شمال العاصمة تونس. في مدينة الشاطيء هذه التي تقع في النقطة الاكثر شمالا في افريقيا، والتي تعتبر احدى المدن الاقدم في تونس، يعيش حوالي 145 ألف نسمة. شواطئها البيضاء النظيفة، موانيء الصيادين، الطعام الفاخر والمباني القديمة – بعضها من العهد الروماني – هي بؤرة جذب للسياح، والأدق أنها كانت بؤرة جذب، الى أن شلت الكورونا فرع السياحة ومعه أحد مصادر الرزق الاهم للدولة.

​انصاف تعمل منذ ثلاث سنوات في وظيفة ادارية كبيرة، فيها تقوم بالتنسيق بين مستوردين وتجار جملة وبين اصحاب محلات. وحسب قولها هي تستثمر في عملها 50 – 52 ساعة في الاسبوع، حتى في أيام العطلة الاسبوعية. راتبها الشهري يصل الى 1800 دينار (حوالي 660 دولار شهريا). في مقابلة مع موقع “اينكيبادا” التونسي وافقت على أن تقدم بالتفصيل مجمل نفقاتها الشرهية: 500 دينا مساعدة لوالدها، 275 دينار لشقيقها، 500 دينار نفقات البقالة، 330 دينار للمواصلات (5 دنانير أجرة سيارة في كل اتجاه)، 220 دينار لشراء الأكل خارج البيت و40 دينار للنادي الرياضي. بالاجمال 1990 دينار مقابل 1800 دينار راتب. في كل شهر يكون لديها عجز 190 دينار. “اذا مرض أحد افراد العائلة فان كل ميزاني سيهتز”.

​ولكن انصاف تعتبر نفسها محظوظة. فهي تعتقد أن راتبها جيد رغم أنه لا يغطي جميع نفقاتها. وهي راضية عن عملها، والمشغلون راضون عنها، هي تعرف أنه لا توجد لها امكانية للتقدم، ومشكوك فيه أن تجد مكان عمل آخر يمنحها شروط افضل. وهي حتى فكرت بالهجرة الى كندا، لكن وفاة والدها اوقفت خطتها. ولسعادتها أنها لا تدفع أجرة شقة لأنها تعيش في بيت العائلة. في نفس الوقت ما زال ليس لديها خطط للزواج واقامة عائلة، بالاساس بسبب النفقات المقترنة بذلك.

​وضعها افضل بكثير من وضع زياد، شاب تونسي يعمل في تدقيق الحسابات في مكتب لادارة الحسابات. راتبه هو 750 دينار، منها 550 دينار من المشغل و200 دينار من الحكومة. فقط في شهر ايلول عاد الى العمل بعد مكوثه في الحجر في اعقاب اصابته بالكورونا. ايضا هو يعيش مع والدته، وهي التي تدفع جميع نفقاته باستثناء السجائر والهاتف المحمول وتكلفة السفر. ورغم ذلك هو لا ينجح في انهاء الشهر بدون ديون تبلغ في المتوسط 70 دينار شهريا. بعض بنات شقيقه يعشن في فرنسا منذ عشر سنوات. وهو نفسه يفكر بالهجرة، لكنه بحاجة الى المال من اجل أن يرتب سفره بصورة قانونية.

​انصاف وزياد هما نموذج لشباب تونس الذين يتدبرون امورهم، والذين يعملون ويحصلون على راتب ثابت. ولكن عندما يكون ابناء الطبقة الوسطى غير قادرين على تأسيس عائلة أو التوفير من اجل تحسين ظروف الحياة، يمكن أن نفهم قوة الغضب التي تراكمت في اوساط ملايين العاطلين عن العمل والذين ينتظرون منذ عقد كامل تحقق الآمال التي جلبتها ثورة الربيع العربي الاولى في الشرق الاوسط.

​فرضية مناقضة للثورة

​اكثر من 600 شخص تم اعتقالهم في الايام الاربعة الاولى للمظاهرات التي اندلعت في هذا الاسبوع في تونس. المشاهد ذكرت بالمواجهات الصعبة التي جرت في كانون الثاني 2011. قوات كبيرة من الشرطة قامت بضرب المتظاهرين بالعصي، وجرتهم على الارصفة وعلى الشوارع، حجارة تطايرت نحو رجال الشرطة، اطارات اشتعلت وقوات الجيش استدعيت من اجل حماية المباني الحكومية. من الشعار الذي قاد الثورة “الكرامة، الرزق، الحرية”، حقق التونسيون امرين، الحرية والكرامة، لكنهم لم يحققوا الرزق. معطيات البطالة الرسمية تبلغ 25 في المئة، لكن في اوساط الشباب نسبة البطالة ترتفع الى اكثر من 36 في المئة. حوالي 13 ألف شخص هاجروا من تونس في هذه السنة، وآلاف آخرون يخططون للهجرة الى ايطاليا وفرنسا والدول الاوروبية الاخرى، بهجرة قانونية أو عن طريق سفن متهالكة في رحلة تعرض الحياة للخطر.

​حسب استطلاعات اجريت في تونس فان كل شاب ثالث يريد مغادرة البلاد. الدولة التي كانت نموذجا للنجاح بعد أن نجح المواطنون في اسقاط سلطة زين العابدين بن علي الديكتاتورية وسن دستور ليبرالي واجراء انتخابات حرة وديمقراطية. وكانت محل حسد لثوريي الدول العربية الاخرى. مقابل مصر التي استبدلت ديكتاتور بديكتاتور آخر، ومقابل ليبيا واليمن وسوريا التي تدهورت الى حروب اهلية، فان تونس بدأت بعملية اعادة اعمار سريعة، السياحة عادت الى الازدهار، ومؤسسات التمويل الدولية ودول غربية تجندت لمساعدتها اقتصاديا. وخلافا لما كان في فترة ابن علي، فان المواطنين في تونس حصلوا بعد الثورة على حرية تعبير كاملة تقريبا. وسائل الاعلام ازدهرت، الانتقاد العام وجد له قنوات تعبير في الشبكات الاجتماعية وفي وسائل الاعلام التقليدية. الرقابة، التي كانت في عهد ابن اخترقت كل حاسوب أو مقهى للانترنت، تم تقليصها بشكل كبير، وتشريع يساوي حقوق النساء بحقوق الرجال، حول تونس الى احدى الدول الليبرالية في الشرق الاوسط. الساحة السياسية اظهرت مشاهد غير شائعة، فيها حزب حصل على اغلبية الاصوات – حزب النهضة الاسلامية – تنازل عن السلطة وشكل تحالف مع احزاب علمانية من اجل تهدئة مخاوف المواطنين من سيطرة دينية على الدولة.

​ولكن هذه السياسة ايضا اسقطت حكومات بسرعة. في السنة الماضية فقط تم تشكيل ثلاث حكومات من بين الحكومات الثمانية التي تم تشكيلها منذ الثورة. ايضا الحكومة الحالية برئاسة هشام ماشيشي تتأرجح، وفي اعقاب المظاهرات من المتوقع أن تجري فيها تغييرات من اجل تهدئة النفوس. الثقة بالنظام السياسي آخذة في التآكل. وفي الانتخابات الاخيرة التي جرت في 2019، نسبة المشاركة كانت 42 في المئة مقابل 68 في المئة في العام 2014. الانتخابات القادمة يتوقع أن تجرى في 2024، وحسب الاستطلاعات التي اجريت مؤخرا فان حزب الدستور المستقل برئاسة عبير موسي يحصل على الشعبية الاكبر.

​موسي، التي حزبها لديه الآن فقط 17 مقعدا من بين الـ 217 مقعدا في البرلمان، صعدت مثل النيزك في سماء تونس. وبفضل كونها شخصية كبيرة سابقة في حزب السلطة لابن علي، فقد نجحت في الاندساس داخل السياسة بعد الثورة، وأن تخلق لنفسها قاعدة قوة سياسية اعتمدت على من يؤيدون النظام القديم. الآن هي تقول بأن الثورة لم تكن إلا من صنيع قوى اجنبية واسلامية تآمرت معا من اجل الاطاحة بالرئيس. موسي تطالب بحظر نشاط حزب النهضة، وهو الحزب الاسلامي الذي فاز بأغلبية ساحقة في الانتخابات الاولى التي جرت بعد الثورة، والذي هو شريكها في الحكم الآن. وهي تقوم علنا بصياغة تاريخ جديد لتونس، يقول إن سنوات نظام ابن علي كانت مستقرة وآمنة، وبالاساس الدولة حظيت في هذه السنوات بالازدهار والنمو الاقتصادي. وهي تطالب بتوسيع صلاحيات الرئيس وتشكيل حكومة خبراء، وهي خطوة اذا تم تطبيقها فستضر بقوة الاحزاب والتمثيل العام في البرلمان.

​موسي هي النقيض لافكار الثورة. وحقيقة أنها تراكم تأييد كبير في اوساط الجمهور، هي الدليل على خيبة الأمل من الوضع السائد في الدولة، الى درجة الاستعداد للعودة الى الديكتاتورية التي حكمتها عشرات السنين. وهذا الشعور يمكن أن نجده ايضا في مصر وفي العراق، وهو يشبه ايضا مشاعر الكثير من الروس بعد انهيار النظام السوفييتي.

​زلة لسان ونفي

​لا يوجد للحكومة الحالية أي حلول جاهزة يمكنها أن تقدم الرد على الازمة الاقتصادية، وانعاش السياحة أو تقليص نسبة البطالة. هي تستخدم بالاساس الوسائل القديمة وغير الناجعة المتمثلة باستبدال الوزراء. في يوم السبت الماضي أقال رئيس الحكومة ماشيشي 12 وزير، من بينهم وزير الداخلية توفيق شرف الدين المقرب من الرئيس قيس سعيد.

​هذه تعتبر مناورة لاظهار القوة أكثر مما هي حل للضائقة. بين رئيس الحكومة والرئيس يوجد توتر شخصي وسياسي يتعلق بالسيطرة على مراكز القوة. وبين احزاب الائتلاف توجد اختلافات في الرأي فيما يتعلق بادارة الازمة، بالاساس فيما يتعلق بمكافحة وباء الكورونا. الخطاب الذي يتعهد بحلول غير مقنع للجمهور. حتى أن الرئيس خرج الى الميدان والتقى مع المواطنين، شباب بالاساس، وشرح لهم بأنه يفهم ضائقتهم، لكنه طلب منهم الحفاظ على النظام والهدوء وعدم المس بالمواطنين أو بالمؤسسات الحكومية. في هذه المناسبة، زل لسانه وقال “اليهود هم الذين قاموا بسرقة الدولة”، هذه الجملة اثارت على الفور ردود صاخبة في زعامة الجالية اليهودية في تونس وفي فرنسا، وطالب رؤساء الجالية توضيحات، والرئيس سارع الى نفي أنه قال هذه الاقوال. ولكن فيلم الفيديو الذي نشر عن اللقاء لا يبقي أي مجال للشك.

​بعد ذلك أوضح قيس أن بلاده تدافع عن اليهود، وأن والده اعتاد حتى على أن يُركب على دراجته ناشطة حقوق المواطن، جيزيل حليمي، عندما كانت طفلة، وكان يحضرها الى المدرسة لحمايتها من النازيين. حليمي التي توفيت في ايلول 2020 كانت محامية تعاملت مع جرائم الحرب وحقوق الانسان، وكانت نسوية وعضوة في البرلمان الفرنسي، ودافعت، ضمن امور اخرى، عن نشطاء من الباسك وعن مروان البرغوثي. الرئيس قيس أكد على أنه توجد حاجة للتمييز بين اليهود وبين الصهاينة، وأنه قبل حوالي سنة اعلن بأن التطبيع مع اسرائيل يعتبر خيانة من النوع الاكثر خطورة.

​الضجة التي أثارها هذا التصريح للرئيس قام للحظة بالتغطية على الازمة في تونس، حيث أن المظاهرات واعمال الشغب لم تتوقف، وحسب من ينظمونها يتوقع أن تتسع في الايام القادمة. في نفس الوقت المتظاهرون يعرفون بأن المظاهرات وحدها لن تحدث التغيير العميق المطلوب في تونس. على الاكثر ربما ستقود الى انتخابات مبكرة، فيها لن تكون أي ضمانة لتطبيق الاصلاحات. واكثر من ذلك، اذا حكمنا على الامور حسب الاستطلاعات فان التيارات المحافظة بالتحديد، التي تؤيد النظام القديم، يتوقع أن تفوز. وبهذا سيتم سحق الانجازات الديمقراطية للثورة.