بطل من بلادي ابو حسن سلامة “الأمير الخجول”

حجم الخط

بقلم بسام ابو شريف 

 

( في 22 / 1 / 2021 ، مرت ذكرى استشهاد صديقي الذي لم يعلن عن صداقتنا لأسباب أمنية) .

42 عاما ، مرت على تفجير الحقد العنصري الصهيوني لمن أذاق مخابرات العدو المر، وكان يخطط للأمر ، قلائل هم الذين يعرفون علي حسن سلامة الانسان ، وقلائل هم الذين يعرفون ماذا كان يجول في قلبه وعقله ، وقلائل هم الذين يعرفون طباعه غير المعلنة ، لكن العلاقة التي ربطتنا كمقاتلين من أجل فلسطين ، وكرجلين واثقين من قدرات الفلسطينيين العقلية والعلمية ، والتخطيطية القادرة على الحاق الهزيمة بالعدو …. علاقتنا ابتدأت انطلاقا من هذه القناعات قناعات تتحول الى فعل ان هي رفدت بشجاعة ، وجرأة ، وأضيف ركوب المخاطر !

تعرفت على ابو حسن في عمان أثناء معارك ايلول ، فقد كنت في موقعي في مخيم الوحدات الذي كان يتعرض للقصف الشديد ، وكان هو مع القائد ابو عمار في جبل الحسين ، وكنا نراقب ما يدور حول ياسر عرفات بالمناظير من حاووز ” الأشرفية ” ، حيث تموضع طاقم الهاون 120 ملم ، وقائد الطاقم آنذاك كان هو دارت معركة كبيرة تصدى خلالها شباب فتح بقيادة ابو عمار حول ” دوار مكسيم “، الذي أصبح يسمى ” دوار فراس “، وانسحب ياسر عرفات ترافقه مجموعات تحمل الآربي جي ، ومدافع رشاشة متوسطة وفردية نحو الكلية الصناعية ، التي تقع على مقربة من ” القلعة ” ، حيث كانت تتمركز قوات من الجيش الاردني  ولاحظنا محاولات تطويق ابو عمار ، ومجموعاته من كل الاتجاهات ، وأبلغناهم باللاسلكي المشفر بأننا سنقصف المهاجمين ، وسنتيح له فرصة الهبوط من الدرج ، الذي يربط جبل الحسين عند تلك النقطة بشارع السلط ” قرب البنك المركزي ” ، وتمكنت قذائف 120 ملم من ردع الهجوم ، وفتح ثغرة مكنت المجموعات من فتح طريق لابو عمار ، ومجموعته المقربة نحو ذلك الدرج ، وعندما شاهدناهم بالمناظير يصلون أول درجات ذلك الطريق الطويل نزولا اتصلت بهم ، وأصدرنا تعليمات ( استنادا لرؤيتنا للميدان ) ، بأن يلتزموا جانب الحائط الشرقي ، الذي يحد الدرج العريض لاتقاء الرصاص .

كانت المجموعة بمن فيهم ابو عمار يظهرون عن بعد كأنهم شجر يتحرك ، فقد موهوا أنفسهم بأغصان الشجر أصدرت أمرا فوريا لمجموعة من المقاتلين ” الأسود ” ، بالاسراع نحو سوق الصاغة في عمان البلد كي يلتقوا بالقائد ومجموعته ، كانت المجموعة مكونة من شباب مقاتلين من الجبهة الشعبية وفتح ، واختصارا مكنت المجموعات ياسر عرفات من الوصول الى مكتب ” صلاح الدبين ” ، الذي كان يقع في شارع جانبي يطل على شارع بارطو ، ومكتب صلاح الدين معروف بشدة بأس المقاتلين التابعين له بقيادة المناضل الكبير ” الشهيد الآن ” ، الحاج فايز جابر ، استقبل ابو عمار بالأحضان في قاعة عسكرية من أقوى قواعد الجبهة الشعبية في منطقة الوحدات ، وكانت مجموعاته هي الوحيدة المزودة بمدفع ب 10 المضاد للدرع ، لم يضع وقتا ، وبادر ابو عمار بالقول ” يا ختيار يجب أن تتحرك فورا الى غرفة رتبناها لك لا ينالها القصف ” ، لم ينتظر الحاج جوابا بل هب واقفا ، وأشار لمجموعة من المقاتلين الأشداء بالتأهب لمرافقة القائد الى المقر ، الذي اختارته له الجبهة الشعبية .

كانت الغرفة أرضية نصفها تغطيه الطريق العام ، وتعلوها طبقتان ، وصل ابو عمار الى المكان ، وبدأت تتوافد عليه القيادات من كل حدب ، في تلك الأثناء تحدثت قليلا مع ابو حسن سلامة كان مقلا في الكلام ، وفي كثير من الأحيان كان لايجيب على أسئلتي ، بل ينظر الي محاولا قراءة مايدور في ذهني …. هكذا بدأت علاقتنا .

وجرت أحداث بعدها سبق أن كتبت حولها ، وأهمها نقل ابو عمار للسفارة المصرية للقاء اللجنة العربية ، وسفره من عمان مع الأمير سعدالعبدالله ، والذي رافقه فيه ابو حسن سلامة دارت الأيام ، وخرجنا من الاردن الى لبنان ، وكانت تلك بداية حرب جديدة …. حرب غولدا مئير الارهابية ضد الفلسطينيين كفاءات ، وقادة ، وكتابا ، ومثقفين ، وصدرت لائحة غولدا مئير المعروفة ، كانت تلك مرحلة استمرت سنوات لعب خلالها ابو حسن سلامة دورا بارزا في عمليات الهجوم والدفاع 1972 – 1979 .

العاشر من يناير كانون الثاني 1979

الساعة 3: 50

المكان بيتي في تلة الخياط

قرع باب بيتي فجرا ، فهب مرافقي وحارسي الشخصي ” رحمه الله ” ، خالد جهاد مشهرا سلاحه ” الحبة في بيت النار ” ، وسأل بصوته الرخيم بعد أن أطل من منظار الباب ” العين السحرية ” ، من أنت ؟ ….. أجابه صوت ابو حسن الرخيم : افتح أنا ابو حسن .

فتح الباب فورا ، ودخل ابو حسن بقامته الطويلة ووجهه الوسيم ، وكنت عندها قد خرجت من غرفة النوم حاملا مسدسي عانقته ، واختفى المرافقون ، وجلسنا في غرفة الجلوس … كان ابو حسن مهموما ، وغاضبا لدرجة انه لم يستطع الكلام فورا سألته عما يريد أن يشرب أو أن يأكل فأجاب : شاي أمرنا بالشاي ، وساد الصمت جاء الشاي ، واستمر الصمت ثم تمدد ابو حسن بقامته على المقعد ، وزفر قائلا : لا أدري ماذا أفعل ؟

كان يتابع معي ما كنا قد تحدثنا حوله سابقا من مشاكل داخلية يتعرض لها …. كان حريصا على منع المشاكل الداخلية ، وكان يتعامل مع الثورة وكأنها الأم الحنون قال : كلما أرادوا أن يرموا غسيلا قذرا لا يجدون أحدا سواي ….. أنا لست ممسحة !!

ضحكت ، وتفاجأ هو من ضحكي ، فنظر الي متسائلا : قلت له لماذا ترى الأمور من هذه الزاوية أنا أراها من زاوية اخرى …. قاطعني أي زاوية ؟؟

قلت : أنت الوحيد القادر على تحمل الأثقال ، ومنعها من اصابتك أنت قوي وقادر على التحمل لذلك يرمون بالأثقال تجاهك ، نظر الي يريد أن يستكشف قلت له : ياعلي أنت الآن بمنصب مديرعام المخابرات ، وعادة تقوم المخابرات بأعمال لايتمكن السياسيون من الاعلان عنها وأصبح معروفا انه يحق للمخابرات ما لايحق لغيرها !!

ابتسم ابو حسن ، وقال : تريد أن تهونها علي ، أجبت : نعم لأن أمثالك يجب ألا يضيعوا الوقت ، بل عليهم أن يضربوا العدو في نقاط ضعفه … هز رأسه تابعت ( وكنت قد طالبته والحيت بالطلب أن يذهب لحضور المجلس الوطني ، الذي سيعقد في دمشق في 11/1 من ذلك العام ، وكان يأبى أن يذهب ذلك أن جلسات المجلس الوطني قد تشهد انشقاقا في صفوف فتح وهو لايريد أن يرى ذلك ، أو أن يساهم بأي عمل قد يقرره ابو عمار لمواجهة المتمردين على قرار القيادة .

انتهزت الفرصة لأكرر الالحاح ، وقلت له : يجب ألا تبقى في بيروت وحدك الجميع سيتوجه الى دمشق لنذهب سويا ….. رفض للأسف ، وتواعدنا أن نلتقي بعد عودتنا …. عانقني وشاهدت في عينيه دموعا صامتة ربت على كتفه ، وقلت له : شو القصة يا ابو حسن اذا كنت تريد أن تنهي الألم تعال معي لدمشق ….. هز رأسه رافضا ، وخرج .

كانت تلك آخر مرة أشاهد فيها ابو حسن .

كانت جلسات المجلس الوطني مشحونة بأجواء متوترة بشدة ، فقد أصبح واضحا أن جناحا من حركة فتح بقيادة ابو صالح ” الله يرحمه ” ، تحالف مع التنظيمات الفلسطينية الرافضة للحلول السلمية ….. تنظيمات الصمود والتصدي من أجل احداث تغييرات في الصفوف القيادية بحيث لا يبقى القرار الفلسطيني تحت سيطرة قيادة فتح ، ورغم كل المحاولات أبى ابو عمار أن يجري أي تغيير على أعضاء اللجنة التنفيذية ، ورتب فقدان نصاب الجلسة بعدم دخول ممثلي فتح وأنصارهم للقاعة ، وساد الجمود : ان 22 / 1 ، هو آخر أيام المجلس الوطني ، وساد هرج ومرج البعض يجلسون في قاعة المجلس ، وآخرون خارجها ، والبعض في القاعة الجانبية ، وفجأة جاءني مرافق من مرافقي ابو عمار ، وقال ” الختيار عايزك ضروري ” ، أسرعت خلفه لأرى ماذا يريد القائد وجدته يجلس منهارا ، ويذرف الدمع لم يكن أحد سواه في تلك الغرفة عندما اقتربت منه قائلا لعله خير يا ابو عمار ما الحكاية ؟

قال ، وهو يعانقني ، ويضع رأسه على كتفي : ” ابو حسن يا بسام اغتالوا ابو حسن ” ، صعقت ، وعانقت ابو عمار بقوة ، وقلت : الجنة له باذن الله – الصبر يا ابو عمار .

اتصل يا بسام اتصل أنا عايزك تتأكد ، وطلب المرافقون ” ام حسن – نشروان” ، زوجة ابو حسن سلامة  ، ما ان رفعت السماعة حتى أجهشت بالبكاء والنحيب ، وبعد دقائق فهمت أنها ذهبت بنفسها للمستشفى وشاهدت كيف هشموا رأس ابو حسن .

هب ابو عمار واقفا ، وتوجه للقاعة الكبيرة ، ووقف بعد أن وضع نظاراته الشمسية فوق عينيه وراح الجميع يتقدم نحوه معزيا … كنت أقف الى جانبه ، وبين الفينة والاخرى كنت أشد على يده كانت يده ترتجف ، وأشار لكبير مرافقيه ، فتقدم نحوه ، وهمس ابو عمار له : دون أن تلفت الانتباه حضر لسفرنا الى بيروت دون ضجة ، ودون لفت أنظار !!

قلت له : وماذا عن المجلس ؟

قال لي : سوف تختتم الجلسة بعد قليل …. نظرت اليه متسائلا فقال لي : ” القديم على قدمه ”  سوف لن أنسى سأستجيب لطلبك في المجلس القادم الآن أريد أن أوجه رسالة للأنظمة .

هرع الجميع للقاعة خلف ابو عمار ، الذي وقف يلفه الحزن ، وتحدث باقتضاب حول الشهيد وهجوم الأعداء ، وأعلن أن المجلس أقر بقاء اللجنة التنفيذية بعضويتها السابقة ، ولم أسمع أي صوت يعترض كان الحزن والصدمة سيدا الموقف ، ولم يتردد ابو عمار في تحقيق ما أراد وهرع الجميع خارج القاعة ، وخارج مبنى الاتحاد العمالي ، وهمست باذن ابو عمار الأخبار ان الثلوج تغطي ضهر البيدر يا ابو عمار ….نظر الي بعريمة وتحد ، وقال : أنا مايوقفني الثلج ، أمرت المرافقين بالاستعداد للعودة الى بيروت ، وقلت لهم شدوا الهمة لنلحق بموكب ابو عمار ، وبالفعل حدث ذلك ، كانت الثلوج تغطي المرتفعات ، واستمر الثلج يندف دون توقف ، توقف موكب ابو عمار بعد شتورا ، وقام المرافقون بالباس العجلات جنازير خاصة للسير فوق الثلوج ، ولم يكن معنا مثلها … انتبه ابو عمار الى سياراتنا ، وقال: انت لحقت كويس امشوا ورانا …. حنفتح الطريق .

وعلقنا عند ضهر البيدر ، الضباب كان كثيفا ، وندف الثلج تتساقط بقوة وسرعة ، والسيارات تأبى التقدم ، وتوقفت سياراتنا بينما مصابيحها تنير المكان … هبط ابو عمار، وصرخ : يا شباب همة ادفشوا السيارات ، وراح المقاتلون يدفشون السيارات حتى خرجنا من المأزق الكبير عبر ما حفرته سيارات القائد في جبل الثلج ، دفش ياسر عرفات سيارته الغارقة في ثلوج ضهر البيدر هو والمرافقون ، وكان عبور ضهر البيدر في تلك الظروف يعني النجاح في الوصول الى بيروت …. وصلنا بيروت ، وتوجهنا خلف موكبه الى بيت الشهيد … عانقنا ام حسن والأطفال ، وجلسنا لمدة ساعة أو يزيد .

وعند المغادرة طلب مني ابو عمار أن أهتم بالعائلة يوميا ، فقد كان يعرف عمق صداقتي مع ابو حسن … الصداقة غير المعلنة .

من هو ابو حسن سلامة ؟

رغم ذكائه لم يتمكن ابو حسن سلامة من تحصيل درجات هامة في ميدان الدراسة ، ولد في بغداد عندما كان والده الشهيد حسن سلامة قد لجأ للعراق هربا من ملاحقات الاحتلال البريطاني في فلسطين ، كان ذلك في العام 1941 ، ثم انتقل للقاهرة ، وعمل في م ت ف كموظف بسيط في دائرة التنظيم الشعبي ، وانتمى لفتح بعد أن بدأت حركة فتح ( اثر هزيمة 1967 ) ، بتجنيد الشباب الفلسطيني لتدريبهم لاكتساب مهارات في العمل العسكري ، والأمني والطيران ، والبحرية .

في الكويت كان خالد الحسن ” رحمه الله ” ، المسؤول الأعلى لحركة فتح ، وبما ان الكويت كانت مجالا واسعا للعمل للفلسطينيين أصحاب المهارات ، والخبرات ، والشهادات الجامعية فقد كان لفتح نشاط كبير ، وواسع في صفوف الجالية الكبيرة من ذوي الأصول الفلسطينية  (كانت الكويت قبل 1959 ، ميدان عمل لياسر عرفات كمهندس ، وفاروق القدومي ، وعلي الحسن ، وخالد الحسن ، وصلاح خلف ، وغيرهم من قيادات ، وكوادر فتح ) .

خالد الحسن ” رحمه الله ” ، كان قائدا متميزا ، وذا شخصية قوية وآسرة ، وكان ثاقب النظرة ويمتلك مواهب عديدة ليس أقلها قدرته على الخطابة ، والنقاش ، والحوار ، واستخدام مبدع للمنطق ، كان عقلا سياسيا خلاقا تميز على كافة أعضاء لجنة فتح المركزية بهذه القدرات ، وهذا لايعني أن اخوة له في اللجنة المركزية لم يتميزوا بدورهم في نواح اخرى من العمل النضالي كالعمل العسكري ، والأمني ، وغيره .

طلب من اقليم الكويت أن يرشح أسماء شباب فلسطينيين قادرين وراغبين في الالتحاق بدورات دراسية عملية في ميادين قتالية شتى ، ومنها الأمن ، وكان يعني دورة تدريبية على أساسيات عمل المخابرات بشقيها الدفاعي والهجومي ، أو الوقائي من اندساس الأعداء ، ونشاطهم الاستخباري المضاد للثورة ، ورصد العدو ، ومتابعته وجمع المعلومات عنه وعن نشاطاته وأسلحته وجيشه ، كان علي حسن سلامة غير مرتاح في عمله في التنظيم الشعبي ، اذ لم تكن شخصيته وميوله تحبذ هذا النوع من العمل لكنه كان بالنسبة له عمل …. وعندما لاحت فرصة الالتحاق بدورات تعليمية ، وتدريبية على فنون القتال كان من أوائل الذين سارعوا للالتحاق بدورة الأمن ، أي دورة المخابرات ، وكانت فتح قد رتبت مع مصر والمخابرات المصرية لاستقبال شباب فتح المنخرطين في دورات المخابرات لاكتساب العلم والخبرة لتأسيس دائرة مخابرات تابعة لتنظيم فتح ، بعد تخرجه من هذه الدورة انطلق ابو حسن سلامة في العمل الأمني كمساعد لمسؤول الأمن في اللجنة المركزية صلاح خلف – ابو اياد ” رحمه الله ” ، وابتدأ عمله في الاردن حيث كانت فصائل المقاومة قد تمركزت بعد هزيمة 1967 .

لم يكن مرتاحا في عمله لعدة أسباب أهمها أن شخصية ابو حسن سلامة لم تكن سهلة القياد كان قد نما وترعرع على وقع كلام كل أفراد عائلته انه ابن حسن سلامة القائد الفلسطيني ، الذي استشهد في القتال ضد عصابات الصهاينة …. كلما تحرك ، وحيثما اتجه كانت تنهال عليه الملاحظات ، وتذكيره بأنه ابن القائد الشهيد ، وعليه أن يتصرف بهذه الطريقة ، وعليه ألا يتصرف كما يفرض عليه عمره ” حتى عندما كان طفلا ” ، ومع السنين اكتسب نتيجة لذلك وجها مكشرا رغم أنه وسيم ، والكشرة لاتعبر عما يجول في عقله أو قلبه ، وشبهت له ” أنا في جلسة من جلساتنا ” ، نفسه بممثل يضع قناعا ليظهر بمظهر المرعب بينما هو تحت القناع شاب طيب وخجول يحب الحياة ، عندها ضحك ، وقال : أنت تعرفني أكثر مما أعرف نفسي .

أجبته فورا : هذا جواب من القناع ، وليس من ابو حسن …. ضحك مرة اخرى ، ومد يده ليصافحني ، وكأنه يقول : هذا صحيح .

أضف الى ذلك مجموعة من العوامل لعبت دورا في اظهاره بمظهر القاسي والمرعب ، لكن العامل الرئيسي هو ما أرضع خلال طفولته حول كيفية تصرف ابن القائد الشهيد ، ونمت معه أيضا فكرة القائد ، فقد كان أقاربه باستمرار يذكرونه بأن ابن القائد قائد ، ويجب عليه أن يشب ويكبر ، وبذهنه أن يصبح قائدا ، بطبيعة الحال زرعت تلك التعليمات في عقله ونفسه ضرورة العمل والنجاح ليصبح قائدا ، والملفت للنظر أنه لم يكن يسمح في دائرة عمله لأحد غيره بأن يصدر قرارا أو تعليمات ، طبعا كان يتلقى أوامر من ياسر عرفات ، لكنه لم يسمح بتلقي أوامر من أي شخص آخر ، وكان يحصر القرار في جهازه به وحده .

كان هذا تعبيرا واضحا عما ترعرع في عقله من أن ابن القائد يصبح قائدا ، لكنه كان يعلم أن تفوقه على الآخرين في ميدان العمل ، هو الذي سوف يكسبه تلك الصفة ، ويجعل من حصر القرار به أمرا مشروعا ، أو على الأقل مقبولا ، وعندما أتحدث عن حصر القرار أعني كل القرارات بما فيها قرار ارسال منفذين لعمليات قد تؤدي الى استشهادهم ، و في بعض الأحيان كان ابو حسن يرفض تنفيذ قرارات صدرت له ، طبعا القرارات التي رفض تنفيذها وناقش دفاعا عن وجهة نظره كانت قليلة جدا ومحدودة ، وتتعلق بحياة فتح الداخلية ، وسأعطبي مثالا على ذلك : –

كما هي عادته عندما يكون غاضبا أو متأزما أو مهموما زارني بعد منتصف الليل ليشكو لي من قرار صدر له باعتقال ” ابو صالح ” ، قال لي : سوف أرفض ، وأريد رأيك …. اعتقال ابو صالح سيؤدي الى مشكلة أكبر من المشكلة التي أثارها ابو صالح بمواقفه أليس كذلك ؟

أجبته : بنعم ، فقال : هل ترى أن رفضي تنفيذ ذلك هو لمصلحة الثورة ؟

قلت له :  بكل تأكيد .

هب واقفا ، وعانقني ، وهم بالخروج …. توقف هنيهة عند الباب ، ونظر الي قائلا : ( اضافة لذلك ابو صالح هو زوج خالتي ) ، وخرج .

يهوى النجاح ككل شخص آخر ، لكن النجاح بالنسبة لابو حسن سلامة كان ، هو الخيار الوحيد وليس احتمالا من الاحتمالات ، اذ ربط مستقبله التنظيمي والسياسي بنجاحه ، فميدان عمله لم يكن يحتمل أي فشل ، كان ذلك محفورا في عقله ، وعكس نفسه على عمله ، وعملياته وخططه ، ولم يكن قدريا كم كان يتصور البعض حتى من المحيطين به …. كان ذكيا ، وداهية في نسج شبكة أمنية فاعلة ، وغير مرئية أو ملموسة ، شبكة أمنية لحماية الرئيس ، ولحماية نفسه ، وأستطيع أن أبدل المواقع ، فأقول شبكة حماية لنفسه كي يتمكن من حماية نفسه والرئيس .

بيروت للوافدين من الاردن ، ولكل الذين لم يعيشوا فيها عالم مختلف عن عوالمهم ، ومنهم ابو حسن سلامة ، الذي يعرف أجواء المعيشة للفلسطينيين في الكويت ، ومصر ، وربما عمان لاحقا مع أن هنالك اختلاف كبير يكتنف حياة عمان ، ولا تجده في الكويت مثلا ، والعيش في بيروت يختلف من دائرة الى اخرى ، فالمجتمع في بيروت مقسم طبقيا بكل معنى الكلمة ونستطيع القول ان بيروت بشكل عام كانت تنتج طبقة من الاليت – أي النخبة لاعلاقة لها بالضرورة بالوضع الاقتصادي ، أو المالي للشخص ( رغم أنها عامل أساسي ) ، بل بما يمثله الشخص ، أو ساكن بيروت في ميدان من الميادين قد يكون الصحافة ، أو الفن ، أو الموسيقى أو البذخ ، أو أن تكون من رواد الهورس شو المعروفين ، أضف الى ذلك أن اللبناني له شخصية مميزة أيضا ، فكل لبناني زعيم ، والزعامة يفصلها اللبناني على قياسه ، وعلى منطقته ، وعلى عمله لذلك ترى اللبناني يتأفف عندما يوقف حاجز للجيش سيارته ليطلب الأوراق الثبوتية ، وتجد اللبناني يغضب عندما يتخطى سيارته شخص آخر متهور ومسرع ، وكل لبناني يعتقد أن الحق معه ، وليس مع الآخرين .

قصدت من ذلك أن أقول ان الوافدين ، الذين لايعرفون بيروت ، ولايعرفون شخصية اللبناني وطريقة تصرفه ، وكيف يقيم نفسه يسهل عليه أن يقع في خطأ قد يكون فادحا ، ولا أستثني قيادات وفدت الى لبنان من الوقوع في الخطأ في حالات محددة مع اللبنانيين ، وذلك قبل أن تتجذر العلاقة الكفاحية ، وينشأ التحالف التاريخي بين الحركة الوطنية اللبنانية ، والثورة الفلسطينية ، ولعبت فصائل لبنان الوطنية دورا هاما في تصحيح طرق التعامل مع اللبنانيين وساعدت في الحد من الاحتكاكات ، التي نشأت بسبب الفاسدين من الجهتين .

المهم هنا أن نسجل أن ابو حسن سلامة كان الأسرع في استيعاب الوضع الجديد ، ومعرفة كلمات السر ، التي تفتح له أبواب المجتمع اللبناني ، واستخدم ذكاءه ، وموقعه كمدير مخابرات ( لا يأتمر بأمر أحد سوى ياسر عرفات ، وبقية الأمر يصدر عنه هو ) ، استوعب بسرعة أن شبكة الحماية ، والأمن يجب أن تبدأ بالشرقية ، أي مع الجهات الحزبية المعادية للتموضع العسكري الفلسطيني في لبنان ، ونسج علاقات هامة وسريعة من خلال قنوات متعددة الأشكال منها الاجتماعي ، ومنها النسائي ، ومنها اغداق الهدايا ، ومنها تقديم خدمات ، وتلبية طلبات للأطراف الاخرى ، وركز على آل الجميل كونهم يقودون الطرف الآخر ، وهكذا ضمن ابو حسن بذكاء ، ودهاء حماية آل الجميل له ، ومساعدتهم له شخصيا ، وليس كحركة مقاومة لكنه كان يستثمر نتائج هذه العلاقة لحماية الرئيس ، ولقائد الثورة ، واستثمرها في لوجستيات بعض عمليات خاصة عندما يتعلق الأمر بمطار بيروت دخولا أو خروجا ، وتمرير السلاح ، في الوقت نفسه كان يقدم الخدمات بحل مشاكل معينة سببها أشخاص من طرف آل الجميل أو مساعدة بعضهم على الخروج الآمن من مطار بيروت ، أو انقاذ أشخاص كانوا قد خطفوا أو مال كان قد سرق ، كل هذا النشاط لم يحرف ابو حسن سلامة عن بذل معظم وقته وجهده في متابعة العدو ، وملاحقته ، وكشف محاولة لاغتيال ابو عمار عندما اعتقل الرجل ، الذي كان يقدم الشاي لابو عمار في مكتبه ، واعترف الرجل بأنه كان مكلفا بوضع السم في الشاي ، لكنه لم يفعل ، وعندما سأله ابو عمار : لماذا لم تضع السم أجاب : لم تطاوعني يدي .

وبعد أن أعلنت غولدا مئير حربها لتصفية قيادات الثورة ، ومثقفي الشعب الفلسطيني وكفاءاته صدر الأمر لابو حسن بالرد ، والردع ، والهجوم ، وكان مدير المخابرات الاسرائيلية زاميرهو المكلف بالقيام بذلك ، وبدأ زامير بارسال عشرات الطرود ، والرسائل الملغومة وباءت كلها بالفشل ، ثم بدأت حرب زامير في اوروبا : – باريس وروما وبروكسيل ، وشن زامير عمليات اغتيال في بيروت أولها كان في 8/ 7 / 1972 ، عندما اغتيل غسان كنفاني واستشهد مع ابنة اخته لميس ، التي كان يحبها حبا جما ، وأهدى لها وهي طفلة كتبا عديدة طبعا كانت غولدا مئير تبرر ذلك بعملية ميونيخ .

أثناء الحرب ، التي شنها حزب الكتائب ، والقوات اللبنانية على القوى الوطنية ، والتي بدأت في العام 1975 ، لعبت العلاقة التي أقامها علي حسن سلامة مع آل الجميل دورا هاما في انقاذ أرواح الكثيرين ممن تعرضوا للخطف ، والخطف المتبادل ، وكانت الجبهة الشعبية قد لعبت هي الاخرى دورا بارزا في التصدي للمارسات الدموية الطائفية ، لكن الحرب التي لعبت اسرائيل دورا أساسيا في اشعالها في لبنان ( وجاءت بعد فشل غولدامئير الذريع في تنفيذ ما أعلنته من حرب شاملة على قيادات ، ومثقفي فلسطين ) ، لم تتحقق النتائج التي كانت تريدها اسرائيل من وراء تدريب ، وتسليح ، ودعم القوات اليمينية اللبنانية ، وانتهت بدخول القوات السورية للبنان بناء على طلب من الرئاسة اللبنانية ، عادت اسرائيل لاتباع سياسة الحملات العسكرية المباشرة بعد انتهاء تلك الحرب الداخلية .

كاتب وسياسي فلسطيني .