الأغـنـيـــة الـوطـنـيـة... د.عاطف أبو سيف

images (7)
حجم الخط

يكاد المرء لا يصدق أذنيه حين يستمع إلى أغاني الثورة القديمة في جميع الإذاعات المحلية خاصة «صوت الأقصى» المحسوبة على حماس والإذاعات الأخرى. أغاني من باب «طالعلك يا عدوي طالع» وغيرها عشرات الأغنيات الأخرى. أغنيات تلائم ربما اجواء الهبة الجماهيرية الغاضبة على الاحتلال، وتعبر عن أصالة الدفاع عن الأرض والذود عن الثرى. وباب الاستغراب أن الإعلام المحلي هو إعلام «مُفرق» ولا يجمع الناس، بل يعمل على تعزيز الإنقسام وتأبيده. وربما لم تستخدم التنظيمات شيئاً أكثر مضرة وسوءاً من الإذاعات المحلية في تعزيز الإنقسام وبث الكراهية والحقد وتأليب الأخ على اخيه، والصديق على صديقه، حيث أن وظيفها المرير والرخيص للإذاعات المحلية جعله أداة من ادوات الإنقسام واحد نتائجه.
وبطبيعة الحال يمكن القول إنه يصعب على المرء أن يستمع إلى إذاعة التنظيم الخصم لأنه سيشعر بلا إنسانيته، وربما يفقد الإيمان بعدالة قضيته الوطنية، ويُفضل أن يظل مثل خصومه في قالب الحزب الذي يصبح قبلة الفكر وبوصلة الوعي وطريق الحرية التي لن يصل لها. بهذا فالوعي الإعلامي تشكل على منظومة من الكراهية والحقد والسموم التي يجب في لحظة تاريخية قادمة محاكمة مع كان مسؤولاً عنها. وربما يمكن للمرء أن يذهب للمطالبة بمحاكمة مسؤولي تلك الإذاعات في أي مصالحة حقيقية تسعي إلى ردم آلام الماضي واستئصال سرطان الفرقة. لأنه دون محاسبة من قام بجعل الكراهية لغة رائجة، فإن بذورها ستظل تعيش عميقاً حين تنبت مرة أخرى.
ومن المؤكد أن استخدام تلك الأغاني الوطنية مرة أخرى في الإذاعات التي نشرت الفرقة ربما يكون نابعاً من الإحساس بأن تلك الأغاني وحدها القادرة على تجميع الناس، وجعلهم يلتفون حول هدف واحد؛ لا تفرقهم. وإذا كان الامر مؤكداً إلى هذا الحد، فليس للمرء إلا أن يستبشر خيراً، بأن ثمة وعي وضمير يستيقظ حتى بعد كل هذه المجازر الإعلامية، لأن الخير باق في الناس، وفلسطين أكبر من الجميع. ولعل هذه فرصة من اجل أن يعاد الاعتبار للأغنية الوطنية التي تم انتهاكها حزبياً واستغلالها بشكل سيء بحيث فقدت الكثير من معانيها وصارت جزءاً من الثقافة الحزبية المقيتة، خاصة حين تصبح جزءاً من ترسانة الهجوم الحزبي ومعول هدم في صرح الوحدة الوطنية. فتتحول الكلمات الجميلة المعبرة عن الوحدة والهدف المشترك والنضال المشرف إلى عبارات تخوين وتكفير الغير. وبذلك لم تفقد الكثير من الأغاني مضامينها بل صارت بدلاً من ان تحفز الناس تهجو نصفهم وتعلن ما يعادي مغنيها كافراً ملحداً خائناً. وفي أحسن الحالات فإن كلمات الأغنية تحولت من الشعار الوطني والرمزية الواحدة إلى شخصيات حزبية وحركية ضيقة، لا تهدف إلا لتمجيد الحزب أو الحركة على حساب التقليل من الآخرين، او جعل بطولات الحزب او الحركة أهم من فلسطين بذاتها.
فيما الأغاني الوطنية الحقيقية لا هدف لها إلا أن تجعل فلسطين أكبر من الجميع، وتجعل الثورة مساراً يوحد كل الطاقات ويجمع شمل الجهود المبعثرة. الأغنية الوطنية هي التي يكمن الوطن في جوهرها، ويسكن النضال من أجل حريته في كل مفاصلها وكلماتها وعباراتها. من المؤكد أن استخدام الأغاني الحزبية أمر وارد، وهو ليس بالبدعة. البدعة تكمن في أن يصبح الحزب في الأغنية أهم من فلسطين، والنضال من أجل هيمنة الحزب وطغيانه أهم بكثير من النضال التحرري، وحين يصبح خصوم الحزب أشد خطورة من خصوم الوطن، بل يصار إلى لعنهم ورجمهم من أجل أن يظل الحزب عالي الهامة مرتفع المكانة.
لابد أن المستمع يشعر بالامتعاض حين يسمع الأغاني الكبيرة التي تربي عليها، وساهمت بشكل كبير في تطور ثقافته الوطنية وهي تتحول إلى مدائح حزبية، حيث يتم استخدام القالب الغنائي والايقاع والكلمات مع بعض التحوير والقليل من التغيير من اجل أن تصير اغنية حزبية بحتة. وفي مرات كثيرة لابد أن يتمنى لو فقد مقدرته على السمع على ان يستمع مكرهاً في سيارة التاكسي او في مكان عام إلى مثل هذا الانتهاك الصارخ لروحه الوطنية، ولذكرياته الجميلة عن تلك الاغاني. وفي مرات اكثر تنتابه موجة غضب تشمل ذكرياته نفسها وماضيها وما ارتبط خلاله وعلق به من تلك الاغاني التي يشعر المرء حين يسمعها بنقاء النفس وصفاء الوطنية، ويستذكر اللحظات التي حملته فيها تلك الأغاني من قاع الإحباط والخوف إلى الشجاعة وساحات المواجهة.
هذه الأغنيات كتبها شعراء عظام في زمن عظيم. منها ما كتبه محمد حسيب القاضي ومنها ما كتبه أبو الصادق الحسيني ومنها ما كتبه فتى الثورة سعيد المزيني، ومنها ما كتبه احمد دحبور وأبو عرب. بجانب شعراء الثورة الذين قالوا شعراً تم استخدامه في الأغنية الوطنية مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين. ولا بد من الاعتذار لكوكبة كبيرة أخرى من الشعراء والموسيقيين الذين لا يمكن حصرهم في هذا المقال الصغير، والقول لهم شكراً لأنكم ساهمتم في بناء شخصيتنا وصقلتم هويتنا. وقتها كانت الأغنية جزءاً من الوعي لا نقيضاَ له، وكانت الموسيقي لحناً يوحد لا سباً وردحاً.
إلى جانب ذلك لابد من الاعتراف أن ثمة جهود متواضعة من أجل الحفاظ على الأغنية الوطنية، لكنها جهود ظلت محصورة في نطاق ضيق، حيث أن البلل أصاب الجميع. وهي دعوة ربما من أجل إعادة الاعتبار للأغنية الوطنية وما تمثله من قيمة وضمانة في المستقبل. ثمة شعراء كثر وثمة كثيرون قادرون على متابعة الدرب، لكن حين يستطاب الغث ويهمل السمين، وحين يصبح الحزب أهم من الوطن، يضيع كل شيء.
ربما تكون هذه الالتفاتة من قبل الإذاعات المحلية في غزة التي رسخت الإنقسام وأسست للإعلام المنقسم وعززت الفرقة، دعوة لمراجعة الذات وحماية ما تبقى منها من التآكل.