بعد ترامب، و«سلام إبراهيم»..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

هبطت العلاقات الفلسطينية ـ الأميركية إلى أدنى درجاتها على مدر السنوات الأربع الماضية. السنوات التي أعلنت فيها إدارة ترامب العداء للفلسطينيين، وشنّت حرباً مكشوفة عليهم. وما نسعى لإلقاء ضوء عليه، في هذه المعالجة، نقطة واحدة فقط، وما قد تستدعي مِنْ، وتنطوي على، دلالات. فالسنوات الأربع الماضية كانت ذهبية، واستثنائية، بقدر ما يتعلّق الأمر بالعلاقات الأميركية ـ الخليجية إلى حد أثار تأويلات، وحتى علامات استفهام، كثيرة في الولايات المتحدة نفسها، وخارجها. فكيف نُفكِّر في أمر كهذا؟
التفكير شيء، والتحليل، والاستنتاج، أشياء مختلفة. فالأوّل يستدعي محاولة القبض على كل المكوّنات المحتملة لمشهد بعينه، والعمل على تعريف الأدوات، بما فيها اللغة، والمفاهيم، بينما يندرج الثاني والثالث في باب اختبار الفرضية والفرضية المضادة، والتركيب والتوليف كمقدّمة للاستنباط. وفي سياق كهذا لا يعنينا المشهد، بل تعريف الأدوات. فعلى مدار السنوات الأربع الماضية ثمة ما لا يحصى من الشواهد والمشاهد التي توّجها «سلام إبراهيم».
وفي سياق كهذا، أيضاً، تبدو اللغة، بما فيها من حمولات أيديولوجية ودلالات سياسية مُسبقة مصدر الكثير من سوء الفهم، لا لأنها لا تكف عن الحركة والحراك وحسب، ولكن لأن للمألوف سلطة، أيضاً. وسلطته ليست بريئة طالما كانت وليدة الأيديولوجيا، ورهينة مصالح ورهانات مادية ومعنوية في آن.
فـ»العربي» مثلاً، كما كان في وسع المعلّم بطرس البستاني تعريفه في مطلع القرن الماضي، أو كما تجلى في أذهان المشاركين في «الثورة العربية الكبرى»، ليس هو نفسه الذي نراه اليوم. وهذا يصدق على مفردات من نوع «العروبة» و»العالم العربي».
فكل هذه التعبيرات لم تكف عن الحركة والحراك على مدار قرن من الزمان. وبقدر ما كانت القومية العربية، بوصفها صياغة أيديولوجية لمشروع سياسي قادرة على توليد تعريفات ومفاهيم جديدة لـ»العروبة» و»العالم العربي»، إلا أنها أفرطت في التعميم، وتجاهلت خصوصيات تُبرر التحفظ على ما بدا، لوهلة من الزمن، وكأنه «حقائق» لا تقبل النقد والنقض من نوع «التجانس» «والمصير المشترك» و»الأمة الواحدة». ناهيك، طبعاً، عن قضايا خلافية أثارها الماركسيون، على نحو خاص، بشأن الشروط التاريخية والاقتصادية لنشوء الأمّة، بالمعنى الحديث للكلمة.
وهذا، في الواقع، ما نسدد، بالمعنى الفكري والعملي، فواتيره، اليوم. وما يستدعي إعادة النظر في صياغات أيديولوجية سبقت صعود الموجة العروبية القومية، وسقطت صريعة على يدها. فـ»العالم العربي» يتكوّن من كتل وأقاليم لكل منها خصوصيات جغرافية وحضارية أنجبت ثقافات، وذاكرات، وتواريخ، ودرجات من التطوّر، تُبرر التحفّظ على وجود كيان موّحد ومتجانس لا يشكو إلا من زعامات فرّقته، واستعمار مزّقه.
هذا موضوع طويل وعريض، بطبيعة الحال، ويهمنا منه، الآن، ما له من أثر وانعكاس مباشر على «الفكر السياسي» للفلسطينيين، إذا جاز هذا التعبير. فمن «المُسلّمات»، الشائعة والمتداولة على مدار عقود، أن المسألة الفلسطينية هي «قضية العرب المركزية»، ونقطة التماس الرئيسة في «الصراع العربي ـ الإسرائيلي»، وأن وضع «المسألة الفلسطينية» يتحسّن إذا تحسّنت علاقة «العرب» بأميركا، وأصبحت لديهم إمكانية التأثير على موقفها إزاء فلسطين والفلسطينيين.
وبقدر ما أرى، فإن مفتاح الخلل في هذه النظرة هو تعبير «العرب»، لأنه يقفز على ما أشرنا إليه من خصوصيات وتباينات. وينسحب هذا، بدوره، على مسألة «المركزية»، و»الصراع العربي ـ الإسرائيلي»، لأن فيه ما يمثل تجاهلاً لفرضيات مغايرة لم تجد حتى الآن ما تستحق من تفكير وتدبير.
أعني أن «المسألة الفلسطينية» هي قضية بلاد الشام، والجناحين المصري والعراقي، المركزية، في المقام الأوّل، وأن كل تاريخ «الصراع العربي ـ الإسرائيلي»، هو تاريخ المثلث المصري ـ الشامي ـ العراقي، وأن مركزية «المسألة الفلسطينية» من مركزية المثلث المذكور، ومن تجليات صعوده، وإشعاعه الثقافي، ونفوذه الأيديولوجي، وسطوته، في «العالم العربي».
ولعل نظرة سريعة إلى ما لحق بالمركزية والمسألة في آن، من ضرر، على خلفية ما أصاب المثلث المذكور من تهشيم في العقود القليلة الماضية، تكفي لاستنتاج أشياء كثيرة. يضم المثلث المذكور ثلاثة أقاليم تشكّل كتلة حضرية وحضارية. وفي شمال أفريقيا ثمة كتلة حضرية وحضارية رديفة، لا تتموضع على خط التماس، ولكن صعود الحركات القومية الاستقلالية، والكفاح ضد الكولونيالية (بنموذجه الجزائري المجيد)، وضعها على سكة الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
لا ينفي كل ما تقدّم حقيقة الصراعات البينية بين الأقاليم، ولا توظيف المسألة الفلسطينية كقميص عثمان فيها. ولكن ما لا يجوز التسامح بشأنه، فكرياً وسياسياً، زعم أن مركزية المسألة الفلسطينية (كما أسلفنا، بوصفها قضية المثلث المصري ـ الشامي، العراقي، وكتلة شمال أفريقيا الرديفة) كانت مجرّد لعبة، وأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي اخترعه الحكّام لإلهاء شعوبهم، فعاد عليها بالويل والثبور وعظائم الأمور. لم تكن لعبة، ولا كانت سبب ما لحق بهم من خراب.
قد يطول الوقت أو يقصر قبل الاعتراف بحقيقة ما يسم المفردات السياسية المُتداولة من حركة وحراك دائمين. ومع ذلك، لا يبدو من السابق لأوانه، وبقدر ما أرى، القول إن إعادة النظر في مفردات كهذه تفتح منافذ جديدة للفكر السياسي، بدلاً من الاستسلام لتعبيرات من نوع «الغدر»، بعد «سلام إبراهيم»، أو الرهان على «العروبة»، في غير مراكزها الحضرية والحضارية، كعلاج لموت الضمير. نحن في المثلث المصري ـ الشامي ـ العراقي، ومنه.