في علم السياسة والإعلام علمنا أن الأحزاب والتنظيمات الأيديولوجية السياسية تواجهُ تناقُضًا بين التزامها الكامل بالأفكار من ناحية، وضرورات التكيُف مع الواقع المُتغيّر من ناحية أخرى، لأن التجربة قد برهنت أن تبنّي الحركات لأيديولوجيا مُعينة لا يعني أن هناك صيغة مُحددة من السلوكيات والممارسات، لأن التعاطي العملي مع الواقع يختلف عن التعاطي مع النظري، كونها الأخيرة لا تعدُو كونها مشروع فكري للمستقبل وصياغات لما ينبغي أن يصبح واقعاً فعلياً.
منذ صغري كُنت أتساءلُ -وليس الوحيد الذي يراودُه نفس السؤال-كيف ستتم الوحدة الفلسطينية بين طرفي الانقسام أي "حركتي فتح وحماس" في ظل تبايُن المرجعيات الأيديولوجية التي تتبناها الحركتان واختلاف الرُؤى في الوقت السابق والراهن اللذان يسيران في طريقين مُتناقضين، فحركة حماس تُنادي بالفكر الإسلامي، والمُقاومة العسكرية للاحتلال "الإسرائيلي"، لكنها تقبل "بهُدنة طويلة" معها، بينما حركة فتح تتبنى الفكر العلماني وتُؤمن بأن المفاوضات مع "إسرائيل" هي السبيل في إنهاء الاحتلال.
بات من المعروف أن الأحزاب السياسية تخضعُ لعملية تكيّف زمني وأيديولوجي خلال فترتها ومراحلها، أو عند انتقالها من المُعارضة إلى الحكم، فتتكيف زمنيًا من حيث المُتغيرات السياسية المُصاحبة لكل مرحلة تمُر بها، بينما تتكيف أيديولوجيًا من خلال إبداء نوع من المُرونة في مواقفها السياسية من القضايا الحساسة والمُؤثرة على الحزب، وبما يتلاءم وطبيعة المرحلة التي يمُر بها، وهذا الذي شهدناه خلال السنوات السابقة في مواقف الحركتين في العديد من القضايا التي تثير التناقُض والجدل السياسي بينهما.
في كثير من الأحيان تجد الأحزاب نفسها أمام خيارين إما الالتزام بالأيديولوجيا أو التعامل مع الواقع ومع معطياته، فتقلل من الأيديولوجيا لمصلحة السياسة، وما تقتضيه من ضرورات التكيّف، لكن ذلك يجعلها مُعرضة للاتهام بالتخلّي عن مُعتقداتها الأيديولوجية ويعطي للعناصر المتشددة داخلها -ولخصومها السياسيين -فرصة انتقادها واتهامها بالتخلي عن مبادئها، لكن في الآونة الأخيرة شهدنا عكس ذلك، متمثلًا بالتقارب والوحدة بمواقف الحركتين في الخطاب السياسي والإعلامي في مُواجهة العديد من القضايا الداخلية والخارجية مثل التطبيع والضم، بعيدًا عن اختلاف وسيلة التعبير والرفض أو "الأفكار السياسية" بينهما، فأصبح الواقع يقرب هذا التناقض ويُمتن الاتفاق على أن الاحتلال هو العدو الأول للشعب الفلسطيني.
فإصدار الرئيس محمود عباس مرسُومًا رئاسيًا بإجراء انتخابات عامة بالتتالي، تبدأ بالمجلس التشريعي، فرئاسة السلطة، ثم المجلس الوطني، خاصة بعد تخلي حركة حماس عن شرط إجرائها بالتزامن، يُمهد ويُشجع الأجواء السياسية الفلسطينية للعودة للاستقرار وإنهاء المُناكفات وتجسيد الوحدة الوطنية على أرض الواقع، بعيدًا عن الأفكار الأيدلوجيا، لمُواجهة المخاطر المُحيطة بالقضية الفلسطينية وأبرزهما مُؤخرًا صفقة القرن والتطبيع مع الاحتلال.
صحيح لا أتوقع أن يهضم الطرفان خُصومتهما الأيديولوجية بشكل كامل، لكني أتوقع من حركة "فتح" التي قادت النضال الفلسطيني لعُقُود، و"حماس" التي قدّمت تضحيات جسام من كبار قادتها ومُنتسبيها، الانتساب أولًا إلى أيديولوجيا الأرض الفلسطينية المُهددة، والدفاع عن حاجات الشعب الفلسطيني الأساسية التي لا يمكن أن يختلف فيها أحد.
فخلاصة القول إن المصالحة الفلسطينية مطلبًا شعبيًا ووطنيًا وسياسيًا يجب تحقيقه، صحيح يوجد تباين في الشق النظري والواقع العملي بالسياسة، لكن لا يوجد تناقُض على قرار الوحدة الوطنية التي يُنادي بها جميع أطياف وفئات الشعب الفلسطيني، هكذا فهمت كيف سنتوحد رغم الأيدلوجيا المتباينة، ولا مانع من أن نتوحد للتخلص من آثار الانقسام البائس، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، والتخلص من ظُلم الاحتلال وبطشه.