حول قطعة أرض غير بعيدة عن جسر دامية في غور الاردن يوجد جدار كتب عليه "خارج النطاق – الدخول ممنوع". هذه هي مقبرة ضحايا العدو، التي يعرفها سكان "المناطق" كــ "مقبرة الارقام". منذ العام 1967 دفن فيها مئات "المخربين"، فيما وضع على كل قبر رقم، وفي وزارة الدفاع محفوظ المفتاح لترجمة الارقام الى اسماء وتفاصيل.
منذ العام 1967 تنتهج اسرائيل سياسة حجز جثث "المخربين" الذين ارتكبوا اعمالا "اجرامية" على اعتبار انه سيأتي يوم تكون فيه حاجة لاستخدامها كورقة مساومة لتحرير أسرى او جثث جنود. ثمة اسباب اخرى لذلك كالرغبة للاثبات للفلسطينيين بانه يوجد ثمن خسارة لـ "الارهاب" ولمنع خلق أبطال وشخصيات للاقتداء بهم.
منذ العام 1994، وفي كل جولة محادثات بين اسرائيل والفلسطينيين، طرح مطلب اعادة الجثث. تشكلت لجنة عامة ("الحملة الوطنية") تركز عملها على اعادة الجثث، جمعيات للعمل على اعادة الجثث تعمل في شرقي القدس وفي "المناطق"، وبعض محاميها ممن رفعوا التماسات الى محكمة العدل العليا حصلوا على قرارات أجبرت جهاز الامن على ان يعيد نحو خمسين جثة. نحو تسعين جثة اخرى اعيدت كبادرة طيبة للسلطة الفلسطينية، وبضع عشرات اعيدت في اطار تبادل الجثث مع "حزب الله".
إن المطالب التي لا لبس فيها للمجتمع والقيادة الفلسطينية لاعادة جثث "المخربين" هي اعراب عن التأييد لاعمالهم والنظر اليهم كوطنيين جديرين بان يندرجوا ضمن الفكرة الوطنية. وعليه فان المطالبة تتم بلا صلة بانتمائهم التنظيمي، سواء كانوا "مخربي الجهاد الاسلامي"، "انتحاريي حماس"، "قتلة الجبهة الشعبية" أو "فتح". كلهم شهداء.
هكذا تصبح اعادة الجثث حدثا رسميا: الجثة تصادر من العائلة وتنقل لتصبح حقا للجمهور. وهي تستقبل بطقوس عسكرية رسمية بمرافقة حرس شرف ومندوبين كبار من السلطة، وتلف التوابيت بالعلم الفلسطيني، يحملها لابسو بزات وتطلق عيارات نارية على شرف الجنازة. وهذه طقوس جماعية تصبح استعراضا للتضامن الوطني ترافقه مظاهر الغضب، الكراهية، والاعراب عن مشاعر الثأر. والطريق من الجنازة الى السكين قصيرة.
هكذا، مثلا، في العام 2012 اعادت اسرائيل جثة عز الدين المصري، مخرب "حماس" الذي نفذ عملية تفجير في مقهى سبارو في القدس، واصبح قبره محجا للشباب. جنازة احمد عبد الجواد، مخرب "حماس"، الذي قتل ابناء عائلة غبيش في الون موريه في العام 2002 كانت مظاهرة وطنية لكراهية اسرائيل. في جنازة آيات الاخرس، نشيطة "فتح"، التي فجرت نفسها في مدخل سوبرماركت في القدس في 2002، شارك الالاف واصبحت شخصيتها اسطورة بطولية ومثالا.
وعليه فغريبة تصريحات قادة جهاز الامن بانه لا منفعة من احتجاز الجثث. فضلا عن ذلك، فبعد نحو خمسين سنة من احتجازها واستخدامها كورقة مساومة، يدعون بتعال اخلاقي: "نحن لا نتاجر بالجثث، ليس هذا سبيلنا". كما يدعي السياسيون، خلافا لرأي رئيس "الشاباك" – المخابرات، بان "احتجاز الجثث لا يخدم المصلحة الاسرائيلية ويلحق ضررا مهماً بخطاب الهدوء المتبادل بين الطرفين". أي بمعنى اننا اذا اعدنا الجثث ستنتهي موجة العنف. وكأن الكفاح الفلسطيني العنيف في هذه الايام هو من أجل اعادة الجثث وليس ضد الاحتلال.
ان للقرار باعادة الجثث منطقا في حالة الاتفاق السياسي، كبادرة حسن نية، ولكن ليس في ذروة هجمة "ارهاب". قرار القيادة السياسية يدل على وهن ورغبة في شراء الهدوء قصير المدى. فالفلسطينيون يشخصون في هذه الخطوة ضعفاً. وفي الشارع الفلسطيني تبدو واضحة مؤشرات وعي النصر من موجة "الارهاب" الحالية: فهم يستمدون التشجيع من الخوف في الجمهور في اسرائيل، من نتائج الكفاح على الحرم، وفي الايام الاخيرة من اعادة جثث "المخربين". كل هذه لا تؤشر الى هدوء بل تشجيع على تفاقم موجة "الارهاب".
عن "يديعوت"
* مراسل "يديعوت" في "المناطق" سابقا، وباحث في معهد ترومان في الجامعة العبرية في القدس حاليا.
الاحتلال: قتلنا أحد منفذي عملية تل أبيب والآخر مصاب بجراح
02 أكتوبر 2024