هكذا سقطت خطة الضمّ ..

حجم الخط

بقلم: أرئيل كهانا


«ستُشكل لجنة مع إسرائيل تحول الخريطة الفكرية إلى خريطة عملية، تفصيلية وأكثر دقة، بحيث يتحقق الاعتراف بشكل فوري»، بهذه الكلمات، في احتفال إطلاق «خطة القرن» في البيت الابيض في 28 كانون الثاني 2020، منحت الولايات المتحدة موافقتها على خطوة تاريخية: بسط السيادة الإسرائيلية على غور الأردن وعلى الاستيطان الإسرائيلي في ثلث مناطق «يهودا» و»السامرة».
ولكن السيادة أو «الضم» لم تخرج الى حيز التنفيذ. رغم اعلان ترامب الصريح، والتعهدات المتملصة لجارد كوشنير، وعشرات الوعود من نتنياهو والأقوال الصريحة للسفير الاميركي، ديفيد فريدمان، بقيت الخطوة السياسية الجريئة التي استهدفت تحويل اتجاه التاريخ بمثابة فكرة على الرف. بعد سنة عدنا لنفحص كيف ولماذا فشلت السيادة؟
***
بدأ بنيامين نتنياهو ينقط تصريحات عن نيته بسط السيادة في جزء من مناطق «يهودا» و»السامرة» منذ بداية 2018. في جلسة كتلة «الليكود» قال إنه «في موضوع بسط السيادة، فمنذ وقت أجري حواراً في الموضوع مع الأميركيين»، وشدد على أن احد المبادئ هو «التنسيق قدر الامكان مع الأميركيين، الذين العلاقة معهم هي ذخر استراتيجي لدولة إسرائيل وللاستيطان ايضا».
في البيت الابيض سارعوا في حينه لنفي أقواله. «وكأن التقارير بأن الولايات المتحدة تبحث مع إسرائيل في خطة ضم كاذبة»، جاء في بيان رسمي، شاذ جدا في عهد ترامب.
رغم النفي، فان نتنياهو ومستشاريه، وعلى رأسهم السفير في واشنطن، رون ديرمر، كان بالفعل في اتصالات وثيقة مع رجال ترامب – كوشنير، جيسون غرينبلاط وفريدمان، حول طبيعة خطة القرن. كانت هناك حاجة الى سنة اخرى من المحادثات لاستكمال تفاصيلها، بما في ذلك فكرة السيادة.
في نهاية 2018 استكملت الخطة، ولكن افيغدور ليبرمان استقال، ما ادى الى تسريع تقديم موعد الانتخابات. وكي لا يظهر الأميركيون كمن يتدخلون في الانتخابات في إسرائيل، وهو أمر اشغل بال كوشنير على مدى كل الطريق، قرروا تأجيل نشر الخطة الى ما بعد تشكيل حكومة في إسرائيل. لم يخمن احد في حينه بان إسرائيل ستتدهور الى سنتين فأكثر من الدوامة السياسية.
ولعلم نتنياهو الجيد بتفاصيل خطة السلام، تحدث من جهته المرة تلو الاخرى على مدى 2019 عن «الفرصة التاريخية لبسط السيادة». ولكن فيما كانت الانتخابات الاولى والثانية في الخلفية، اعتبرت اقواله وعدا انتخابياً، واستقبلت بعدم ثقة.
مرت سنة اخرى. وصلنا الى نهاية 2019. وكانت إسرائيل في حينه في الطريق الى انتخابات ثالثة، واستعد ترامب لمنافسة جديدة على الرئاسة. رغم الوضع السياسي في إسرائيل، قرر فريق السلام تحرير الحصان من الاسطبل. وهكذا تقرر ان تعرض خطة القرن على الجمهور أخيرا في كانون الثاني 2020. وإذ تعلم نتنياهو من تجربته في 1999، عندما خسر الانتخابات بسبب معارضة اليمين السياسي لاتفاقات واي، تخوف نتنياهو من أن يقوض اليمين الخطة، وتعزز الخطة قوة نفتالي بينيت وتؤدي الى اسقاطه من الحكم. ولهذا طلب من السفير الأميركي فريدمان، الذي تمتع بثقة كبيرة في اوساط زعماء اليمين، ان يعرض عليهم مبادئها وان يجند تأييدهم لها. استجاب فريدمان، وذلك ايضا لان هذه الجماعة تهمه، ولان الخطة تعد قمة تاريخية عملت الادارة على الوصول اليها.
في الاسابيع التي سبقت الاحتفال في البيت الابيض، تحدث فريدمان مع شخصيات بارزة في الساحة السياسية والاعلامية في الجناح اليميني في إسرائيل. احد الوعود المركزية التي عرضها كان «ضوءاً اخضر» من الادارة لبسط السيادة الإسرائيلية «بشكل فوري»، على غور الاردن وعلى كل المستوطنات الإسرائيلية في «المناطق». والى ان قيلت الكلمات على لسانه، كانت فكرة السيادة تعد غير واقعية في الخطاب السياسي مثلها مثل تجفيف المحيط الاطلسي. ولكن فريدمان تعهد، ووقف زعماء اليمين الى جانب الخطوة.
«هذا حدث نادر ومهم، الفرصة السياسية الكبرى لنا منذ 50 سنة»، قال وزير الدفاع في حينه، نفتالي بينيت. وقف بعض قادة مجلس «يشع»، وذلك ايضا بسبب ضغوط من جانب مكتب نتنياهو، الى جانب رئيس الوزراء في مطار بن غوريون عندما انطلق على الدرب. كما أن صحافيين يتماثلون مع المعسكر الوطني أيدوا الخطة.
يوم الاثنين فجرا، 27 كانون الثاني 2020، وصل نتنياهو الى واشنطن. على طائرته اضافة الى الاعلان، كان ايضا السفير فريدمان، ورئيس الكنيست، يريف لفين، ومستشارو رئيس الوزراء.
يروي لفين فيقول ان «فكرة السيادة كانت اختراقا بكل مقياس، رؤيا الآخرة التي لم يتحدث عنها احد ابداً حتى ذلك الوقت. وقد قلبت من الاساس كل مفهوم العمل السياسي، وكان من الصعب جداً في البداية اقناع الأميركيين بمنطقها، وبالحاجة الى تنفيذها بشكل فوري. ولكن في نهاية المطاف كان هناك اتفاق واضح على ان يعترفوا بحقنا في ان نحصل على السيادة على الارض التي يخصصونها لنا». ما فهمه وعرفه لفين عرفه وفهمه ايضا نتنياهو، والسفيران ديرمر وفريدمان وعمليا كل من كان مشاركا في الاعداد.
مع الوصول الى واشنطن بدأ نتنياهو بالإعداد للغداة. بالمقابل كان رأس ترامب ورجاله في اماكن أخرى. بلغ إجراء العزل الاول ذروته في تلك الفترة. عندما جلس نتنياهو مع مستشاريه في بلير هاوس كانت أميركا منشغلة بمسألة هل مستشار الامن القومي السابق، جون بولتون، سيصل الى مجلس الشيوخ ليشهد ضد الرئيس. وبالتوازي، في ذاك اليوم تماما، تلقى ترامب تقريرا أول عن وباء «كورونا»، وغرد على التويتر - ومن كان يصدق – بأن الولايات المتحدة تعرض مساعدتها على الصين.
بسبب الجدول الزمني المليء، أُلغي لقاء تنسيق أخير لكل مستشاري الرئيس المرتبطين بخطة القرن، كان مخططا له لذاك المساء. وهنا، مثلما في مركبة فضاء لم يشد فيها برغي تماما، زرع الخلل الأول.

مفاجأة الحياني
في الغداة، عُقد الاحتفال في البيت الابيض. كان نتنياهو منفعلا ومتحمسا ولكن الرئيس ترامب، ربما بسبب العزل وربما لسبب آخر، كان قصير النفس. فور الحدث توجه نتنياهو الى المضافة الرسمية امام البيت الابيض، بلير هاوس، لإحاطة للصحافيين.
السعادة والرضى على وجوه نتنياهو ومستشاريه ما كان يمكن إخفاؤهما. ثلاث سنوات من العمل المضني والسري انتهت بما يبدو في تلك الدقائق كاختراق تاريخي لا مثل لها منذ حرب «الايام الستة». وأوشكت إسرائيل على أن تتخذ خطوة عظيمة لتعزيز مصالحها في «المناطق».
كانت الإحاطة طويلة. ودخل نتنياهو الى تفاصيل تفاصيل الخطة. وأعلن بان «حكم ايتمار كحكم تل أبيب»، وأعلن بأنه «في جلسة الحكومة القادمة، الاسبوع القادم، سيُتخذ القرار ببسط سيادة إسرائيل في المناطق المخصصة وفقا لخطة ترامب». واضاف بأنه ستكون لاحقاً نبضة اخرى.
وبالتوازي مع اقواله في واشنطن غرد مستشاره، يونتان اوريخ، الذي كان في تلك اللحظة في إسرائيل «السيادة على كل الاستيطان يوم الاحد».
ولكن بينما كنا نحن الصحافيين نجلس حول الطاولة في بلير هاوس ونتنياهو يتحدث، عقد مستشار ترامب الاكثر تأثيرا، جارد كوشنير، مقابلة مع الاعلام الأميركي. وبخلاف نتنياهو أوضح بان «الضم ليس في الأيام القريبة القادمة». وبالتوازي نقل البيت الابيض رسالة مباشرة لرجال نتنياهو، وفيها معارضة لتنفيذ فوري للسيادة. البرغي المرخي في المركبة الفضائية بدأ يفلت.
في البلاد، سارع اوريخ لشطب التغريدة. في واشنطن واصلت الامور التدهور. وصل الى المدينة رئيس مجلس «يشع»، دافيد الحياني، وشريكاه عوديد رفيفي من افرات وشلومو نئمان من غوش عصيون. كما وصل ايضا رئيس مجلس «السامرة»، يوسي دغان؛ إذ ان للمستوطنين سياسة خاصة بهم.
دغان، خصم قديم لمجلس «يشيع»، أراد ان يلتقي نتنياهو على انفراد. ولكن الحياني تلقى وعداً الا يلتقي نتنياهو به. ومع ذلك، في الواحدة ليلاً تقريباً، عندما خرج الحياني من عند نتنياهو في بلير هاوس، رأى أن دغان ينتظر دوره للدخول. فاشتعل غيظه، وفي اللحظة ذاتها صاغ تصريح معارضة حادا باسم مجلس «يشع»، لخطة السلام. وسرعان ما وصلت اقواله الى البيت الابيض. أُصيب السفير فريدمان بالدهشة.
«كان لدى السفير إحباط كبير جدا»، أكد مصدر أميركي كان هناك في تلك الليلة. «المستوطنون وزعماؤهم هم مثاليون، ولكن هذا سلوك صبياني من جهتهم، شهد على عدم فهم تام للساحة السياسية. عارض رفيفي بشدة البيان، والشرخ الذي نشأ في تلك الليلة في مجلس «يشع» لم يرأب حتى اليوم».

جارد فهم كل شيء
المشكلة الأكثر اشتعالاً في تلك اللحظة كانت الفجوة بين موقف نتنياهو وفريدمان وبين موقف كوشنير. نتنياهو وفريدمان تحدثا عن «السيادة يوم الأحد»، أما كوشنير فأعلن عن «السيادة لاحقا، بعد الانتخابات».
ويعترف يريف لفين فيقول: «حتى الآن لا أفهم ما الذي حصل هناك. في طرفنا كان واضحاً للجميع أن الخطوة كان يفترض بها أن تتم بشكل فوري. كما أن الأميركيين لم ينفوا أبدا فهمنا لما اتفق عليه. وعندما طلبوا في ذاك المساء تأخير الخطوة كان المبرر فنيا، لترتيب الخرائط، ولكن في تلك المرحلة وما تلاها ايضا لم يقدموا معارضة مبدئية».
كل الجهات الأميركية التي تحدثنا معها لغرض كتابة هذا التقرير تؤكد رواية لفين. فهاكم مثلا ما قاله مسؤول سابق في لبيت الابيض، كان في قلب العملية: «لا شك ان السفير فريدمان والمبعوث غرينبلات كانا متحمسين للفكرة، ولهذا فقد ادخلاها الى الخطة». اما بالنسبة لكوشنير فيشرح المسؤول: «كان هو المسؤول. أطلعناه مرات عديدة على الخطة، بما في ذلك فكرة السيادة. وحتى لو كان أقل تحمساً من الآخرين، فانه لم يعارض فكرة السيادة وإلا لما كانت ظهرت في الخطة. جارد رجل ذكي، ذو تفكير استراتيجي، والادعاء بانه لم يفهم، او أن كل موضوع السيادة كان خدعة سياسية من نتنياهو هراء تام». ويضيف مصدر إسرائيلي مطلع بانه «لو لم يكن نتنياهو واثقاً مئة في المئة بان هذا هو موقف الولايات المتحدة لما أهان نفسه بالمجيء حتى واشنطن وإطلاق تصريح السيادة».
حتى كوشنير شرح منطق خطوة السيادة في طريقه الى الامارات في 31 آب 2020 إذ قال: «هذه أراض لا أرى إسرائيل تخليها في المستقبل». وشرح السفير فريدمان لاحقاً الفوارق في المواقف في ذاك اليوم بينه وبين كوشنير بأنه «سوء فهم».
وكان يتعلق سوء الفهم بموضوع «الاعتراف بشكل فوري». فقد اعتقد فريدمان ونتنياهو بأن «الفوري» معناه جلسة الحكومة القريبة. اما كوشنير فاعتقد بان الخطوة يجب أن تتم بعد الانتخابات حين يكون هناك اجماع سياسي حولها في البلاد.
ابتعاد سموتريتش وبينيت
حاول الأميركيون والإسرائيليون في تلك الليلة انقاذ الوضع. في صباح الاربعاء قال كوشنير: «ستكون لجنة خرائط وستتوصل الى النتيجة الصحيحة. ولكن هذه العملية تحتاج الى جهد ما وتنسيق».
مرت الاسابيع، سيطر «كورونا» على العالم، وانحرف صاروخ السيادة عن مساره ولكن في مراكز الرقابة في القدس وفي واشنطن كانوا لا يزالون يحاولون السيطرة عليه. في مدينة ارئيل انعقدت في نهاية شباط لجنة الخرائط الأميركية- الإسرائيلية. وفي الاسابيع التالية لذلك قبل وبعد الانتخابات في إسرائيل، عقدت اللجنة عدة جلسات، ووصلت الى نتائج مهمة.
ولكن العراقيل تعاظمت بما في ذلك من جانب من كان يفترض أن يكونوا القيادة الكبرى للخطوة. دافيد الحياني، يوسي دغان، وآخرون في المستوطنات وفي اليمين تنافسوا الواحد مع الآخر في التنديد بالخطة. وكذا سموتريتش، آييلت شكيد، ونفتالي بينيت حرصوا على بعض البعد. من اليسار، بدأت حملة صاخبة ضد «الضم». واشار صحافيون إسرائيليون لدبلوماسيين عرب في البلاد ان يهددوا إسرائيل بقطع العلاقات. في الأسرة الدولية، ولا سيما في اوروبا، ارتفع مستوى التحذيرات. وضاع الزخم.
ومع حلول الموعد التالي، الذي حدده نتنياهو للضم، الأول من تموز، كانت لجنة الخرائط قد أعدت أربع خرائط للسيادة المحتملة. في نهاية حزيران، وكانت نشأت في إسرائيل حكومة وحدة، وفقد ترامب مكانته الداخلية والدولية بسبب الوباء، تخوف كوشنير اكثر من اتخاذ خطوات غير مقبولة في الساحة الدولية. والى جانب ذلك تلقى غانتس من الأميركيين حق الفيتو على المسيرة السياسية. ومع ان غانتس أعرب عن تأييد متحمس للسيادة على مسمع من المستوطنين وشجعهم على أن «يأخذوا ما يتوفر لهم» إلا أنه قال النقيض التام للأميركيين. وهكذا ايضا وزير الخارجية اشكنازي. لا شك ان للرجلين دورا في شطب بسط السيادة عن جدول الأعمال، ويمكنهما ان يضيفا ذلك إلى «سيرتيهما الذاتية».
وكان قبل ذلك، في منتصف حزيران، طرح سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، اقتراحا لتجميد السيادة مقابل تسوية العلاقات مع إسرائيل. وقبل نشر المقال في 12 حزيران في «يديعوت احرونوت» نقل المقال الى عناية آفي باركوفيتش في البيت الابيض الذي أعطاه الضوء الأخضر.
في نهاية حزيران جاء باركوفيتش الى البلاد والتقى على انفراد مع اشكنازي، غانتس، ونتنياهو. سمع من الأولين معارضة للسيادة، ومن الأخير تلقى ضوءاً اخضر لاستبدالها باتفاق سلام مع الإمارات، وهي عملية كانت على اي حال على شفا النضوج بعد سنوات من التقارب من تحت الطاولة.
في هذه النقطة فقدت المركبة الفضائية للسيادة الاتصال، حتى إشعار آخر، او حتى تعيدها إدارة جمهورية جديدة الى المسار. وبدلا منها حصلت إسرائيل على اتفاقات إبراهيم.
عن «إسرائيل اليوم»