الكل أمام الامتحان ...

83baebb9-0b73-42e5-9667-cb0e34a79606
حجم الخط

بعد أن دخلت الهبة الشبابية أسبوعها الخامس، لم يعد ثمة خوف على استمرارها، اذ لم يعد ممكنا لطرف ان يدعي السيطرة عليها والعمل على تهدئتها، حتى اذا تحركت أطراف دولية تحمل مبادرات لاستئناف المفاوضات.
ومن حيث المبدأ فإن بداية مفاوضات مقبلة قد يجري الاتفاق على استئنافها، فإنها لن تكون قادرة على تحويل المجرى الأساسي الصراعي الذي حفرته وعمقته إسرائيل عبر سياساتها العنصرية التوسعية. في هذه الحالة، فإن استئناف المفاوضات لن يكون سوى تكتيك لنزع الذرائع، وفي اطار علاقات عامة، تستهدف إسرائيل من ورائها فقط وقف هذه الهبة الشعبية، واستغلال مخلفاتها من الإجراءات والقوانين العنصرية لمنع اندلاعها مرة أُخرى.
أما عن عوامل استمرارها فهي اولاً تكمن في طبيعة الإجراءات والقوانين والعقوبات الجماعية والممارسات العدوانية التي اتخذتها وتتخذها إسرائيل، والتي تخرج من جوفها (اي من جوف إسرائيل) كل ما تختزنه من ابعاد عنصرية احتلالية. أما العامل الثاني والذي يشكل ضمانة الاستمرار فهو انخراط الفصائل الفلسطينية فيها بما يمدها بالطاقة. حتى لو ان فصيلا أراد العمل من اجل تهدئتها، وفي الواقع، فإن كل الفصائل تبدي حرصاً على المواصلة.
هذه الهبة الشبابية، المدفوعة بتمرد شامل على كل الأوضاع والسياسات الإسرائيلية والعربية والدولية، وعلى الخيارات والسياسات الفلسطينية الخاطئة، تبدو وكأنها تذهب نحو عمق الصراع، وأساساته الوجودية طالما ان إسرائيل تقوم بنسف الأسس التي يمكن ان تحقق تسوية مقبولة من الطرف الفلسطيني.
في الواقع فإن استمرار هذه الهبة، حتى بالوتائر الجارية وبالوسائل المعتمدة، من شأنها ان تزلزل المجتمع الإسرائيلي في التجمعات الاستيطانية وفي المجتمع الإسرائيلي في مناطق ١٩٤٨.
لقد جهزت إسرائيل نفسها، وأمدتها القوى الاستعمارية بكل ما يلزم على أسس عقدية أمنية تعتمد التفوق الكاسح على ما عدا جيشها من الجيوش العربية، وخوض الحروب الخاطفة لتحقيق الانتصار، وامتلاك قوة ردعية هائلة، لكن هذه العقيدة لم تأخذ في الاعتبار إمكانية خوض حروب داخلية كالتي تواجهها إسرائيل.
الحرب ليست خارج جغرافية فلسطين التاريخية، وهي حتى ليست في الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٦٧، ما يجعلها حربا وطنية قد تأخذ أحيانا طابع الحرب الأهلية.
هذه الوضعية المحتملة، من شأنها ان تعيد تشكيل المشهد السياسي في إسرائيل، فإذا كان اليمين واليمين المتطرف هيمن على الحياة السياسية، وأقصى ما كان يعرف بالوسط واليسار، فإن انزلاق اسرائيل تدريجيا نحو العنصرية ونحو اي شكل من أشكال الحرب الأهلية، سيؤدي الى نشوء تيارات سياسية تستشعر الخطر الوجودي وتعارض بقوة من تسبب في ذلك.
تذكروا ان حركة الأمهات الأربع هي التي أجبرت أيهود باراك على الخروج من لبنان عام ٢٠٠٠، ما يجعلنا لا نستبعد ان تنشأ كتل اجتماعية او سياسية او اقتصادية فاعلة في الضغط على حكومة وسياسة اليمين، فلقد خسرت أسرائيل في الشهر الأول للهبة نحو ستة مليارات من الشواكل.
ليس هذا فقط بل ان استمرار الهبة الشعبية لفترة أطول سيدق نواقيس الخطر على المصالح والمشاريع والاستراتيجيات الاستعمارية التي صنعت إسرائيل وأمدتها بكل أسباب التفوق والاستمرار حين تجد هذه القوى ان سياسة اليمين الإسرائيلي باتت تهدد كل هذا المشروع. ومثلما يتحمل كل من يدعي الرغبة في تحقيق السلام، وكل من يدعي في إسرائيل انه ينتمي الى اليسار والوسط، فإن الدول التي دفعت مئات المليارات من الدولارات لإقامة وإدامة مشروعها الاستعماري ستندم هي الأخرى بسبب سياساتها المتخاذلة التي تواطأت مع السياسات الإسرائيلية، حتى تمادت الى هذا الحد الذي لم يعد للشعب الفلسطيني ان يطيقه.
الهبة الشعبية اذاً في طريقها لتصحيح مسارات العلاقة بين الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل، بما ان هذه العلاقة لا تتعرف على الخيارات الباحثة عن سلام وحقوق صادرتها العقلية التوسعية، المفارقة الغريبة ان هذه الهبة العظيمة تنجح في تصحيح مسار العلاقة مع إسرائيل وهي ستنجح في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية عربيا ودوليا، ولكنها لم تنجح حتى الآن في تصويب وتصحيح العلاقات الوطنية وهو أمر تتحمل المسؤولية عنه قيادتا فتح وحماس. من غير الطبيعي ولا المنطقي ان تبقى الأحوال كما هي، ولا ان تبقى المؤسسة الفلسطينية كما هي، بينما تغير الهبة الشعبية المتصاعدة كل ما حولها، ان التغيير في هذا الاتجاه هو عنوان الوطنية، وهو الاختيار الأساسي لمصداقية الكلام والخطاب الذي يسعى وراء استمرار الهبة.