ترامب للمرة الأخيرة

حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

نكتب عن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، للمرة الأخيرة، على الأغلب، وذلك بمناسبة تصويت الكونغرس في محطته الثانية، أي مجلس الشيوخ بعدم إدانته بتهمة  التحريض على العصيان، وهو في الحكم، وذلك على خلفية اقتحام أنصاره، بناء على تشجيعه ومطالبته، لمبنى الكونغرس «الكابيتول» في العاصمة واشنطن، يوم السادس من كانون الأول الماضي، بهدف منع ممثلي الشعب الأميركي من المصادقة على فوز الرئيس الحالي جو بايدن، الأمر الذي أدى إلى مصرع خمسة أشخاص، بينهم شرطي، وإلى اهتزاز صورة ومكانة الديمقراطية الأميركية في العالم.
ولأن الأمور لا تؤخذ فقط بنتائجها، بل بسياقاتها أيضاً، وكذلك بما تحدثه من تأثير على أمور أخرى، فإن التصويت في مجلس الشيوخ على اتهام الرئيس السابق بالتحريض على العصيان، كان قد تبع تصويت مجلس النواب على عزل ترامب بعد يوم الاقتحام مباشرة، وحيث لم يكن الوقت يكفي (أسبوعان فقط) ما بين بدء تلك العملية ومغادرة الرجل للبيت الأبيض لتتابع إجراءات العزل من المنصب، فقد وصل قرار النواب بعزله بأغلبية 232 مقابل 197، لمجلس الشيوخ بعد مغادرته فعلياً، ليتم التحول من المطالبة بالعزل إلى التحريض على العصيان.
السؤال هنا هو لماذا تابع الديمقراطيون إجراءات مساءلة ترامب بعد مغادرته للمنصب، والإجابة تشير إلى أن المعركة ليست قضائية بحتة، بل لها بعد سياسي بيّن وواضح، فأول ما يمكن ملاحظته هو أن عشرة نواب من الجمهوريين من أصل 207 في مجلس النواب قد صوتوا لصالح قرار عزله، إلى جانب تصويت كل الديمقراطيين الذين يشكلون أغلبية المجلس بواقع 222 عضواً، ولأن قرار الإدانة في مجلس الشيوخ كان يتطلب أغلبية الثلثين وليس الأغلبية البسيطة، والتي تحققت بواقع تصويت 57 من أصل مئة عضو، لذا فشل مجلس الشيوخ في إصدار قرار الإدانة الذي كان من شأنه أن يمنع الرئيس السابق من تولي أي منصب فدرالي، بما في ذلك الترشح لمنصب الرئاسة عام 2024، كما كان ينوي، أو كما كان قد أعلن بالفعل، بعد ظهور النتائج الأولية للانتخابات حين أشارت إلى فشله في الفوز بانتخابات التجديد للولاية الثانية.
أظهر التصويت في مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، إذا تلاحم ممثلي الحزب الديمقراطي في المجلسين، الذين صوتوا بكامل عددهم لصالح قرار العزل، ومن ثم مشروع قرار التحريض على العصيان، مقابل تصدع الحزب الجمهوري، حيث صوّت عشرة نواب في مجلس النواب وسبعة شيوخ على مشروعي القرار الديمقراطي.
في حقيقة الأمر، كان قرار العزل في مجلس النواب سيمر لأنه يتطلب الأغلبية البسيطة المتحققة بأغلبية النواب الديمقراطيين، في حين أنه كان واضحاً، بأن قرار الإدانة لن يمر في مجلس الشيوخ بسبب حاجته لأغلبية الثلثين، لكن ذلك لم يمنع الديمقراطيين من مواصلة المعركة. وتعتبر النتيجة تحقيقاً لمكسب ديمقراطي بإضافة سبعة شيوخ جمهوريين لموقفهم الرافض لسلوك رئيس جمهوري مارسه وهو في الحكم، بما يؤثر جداً على  مسار الانتخابات القادمة، إن كانت تلك النصفية التي ستجري على الكونغرس بعد اقل من عامين، أو على قدرة الإدارة الديمقراطية الحالية التي تسيطر على البيت الأبيض وعلى مجلسي الكونغرس، على تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية بكل فاعلية، كذلك تحد كثيراً من قدرة ترامب بما يمثله من اتجاه يميني شوفيني متطرف على التأثير والنفوذ داخل الحزب الجمهوري نفسه.
كان يمكن لترامب إذاً لو أنه أظهر قدراً أكبر من الاعتدال والحكمة أو التعقل، أن يبقى زعيماً للحزب الجمهوري، في مواجهة الإدارة الديمقراطية الحالية، وأن يقوده في انتخابات الكونغرس والرئاسة القادمة خلال الأربع سنوات التالية، وصولاً إلى انتخابات الرئاسة عام 2024 كمرشح أكثر حظاً أولاً بترشح الحزب الجمهوري، ثم بالفوز بالرئاسة مجدداً.
لكن ما حدث قد أثر سلباً بدرجة كبيرة على حظوظ الرجل في العودة مجدداً لصدارة المشهد السياسي، أما الحزب الجمهوري، خاصة فيما يخص تصويت مجلس الشيوخ على تهمة العصيان، فقد سعى للحفاظ على الحزب ومنعه من الانهيار، في حال صوّت عشرة شيوخ إضافيين لصالح مشروع القرار، وهنا كان موقف ميتش ماكونيل زعيم الجمهوريين الذين كانوا يشكلون أغلبية المجلس بوجود نائب الرئيس المرجح في حال تعادل الحزبين (50 مقابل 50)، أي قبل تولي كمالا هاريس رئاسة المجلس.
والحقيقة أن فوز مرشحي الحزب الديمقراطي بمقعدي ولاية جورجيا في انتخابات الإعادة، اعتبره كثير من المراقبين يعود إلى سلوك ترامب الفج في ذلك اليوم، وبالنتيجة فإن ترامب سيكون أمام خيارين أحلاهما مر: فإما البقاء في الحزب الجمهوري، حيث لم تعد فرصته بزعامة الحزب والفوز بترشيحه له في انتخابات عام 2024 مضمونة أبداً، أو التوجه لتأسيس حزب شوفيني يعلي من شأن العرق الأبيض، في بلد متعدد الأعراق، يريد بهذه الصفة بالذات الاستمرار بجعل أميركا بلداً لأحلام البشر، وقبلة لهجرة الكفاءات في كل المجالات، كذلك دولة تقود العالم بكونها نموذج التعددية والديمقراطية الاجتماعية والسياسية.
استمرار حرب الديمقراطيين على ترامب إذاً تمثل حرباً لا هوادة فيها على إشارات التطرف والإرهاب الداخلي، حيث مثّلت المجموعات المسلحة رأس حربة لجمهور ترامب ومعركته الخاسرة وغير الديمقراطية من أجل البقاء في البيت الأبيض، لذا كانت أولوية إدارة بايدن هي التركيز على الوضع الداخلي للتخلص من العنصريين الإرهابيين في الداخل، ومن ثم البدء في معالجة آثار سياسة ترامب الخارجية، التي مهدت لمحاولة إعادة أميركا لعهد الدولة الاستعمارية التي تفرض سياستها الخارجية بالقوة، وهذا يمس كل الملفات الخارجية، لذا يمكننا القول بأن إعادة ترتيب العالم بمكوناته الإقليمية قد بدأت، وحيث أن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي ببنده الرئيسي المتمثل باحتلال إسرائيل لأرض فلسطين، فإن الكفاح الفلسطيني من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين لا بد أن يبدأ، فلن يستقر العالم، وفي مقدمته الشرق الأوسط، دون وضع حد ليس للدولة العنصرية التي سعى لإقامتها ترامب، بل أيضاً للاستعمار الذي تمارسه إسرائيل التي يقودها صديق ترامب، رئيس الحكومة وزعيم اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.