صراحةٌ أكثر، وحياءٌ أقل..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

قطع «الحدث الأميركي»، أي محاولة ترامب الانقلابية الفاشلة، الخيط الرئيس في سلسلة معالجات بدأت منذ عام، تقريباً، في محاولة للقبض على المعاني والدلالات المحتملة لـ»سلام إبراهيم»، مع الاعتراف بحقيقة أنها في طور التكوين، بمعنى أنها تُفسِّر ما نشهد من تحوّلات، وتُفسَّر بها.
وفي سياق كهذا، ازدحمت الأسابيع القليلة الماضية بأحداث من عيار ثقيل. ولكن أكثرها أهمية، كالعادة، كان أقلها حضوراً، بمعنى ما يستحق من اهتمام وتحليل، وإن لم يكن أقلها، كالعادة أيضاً، عرضة لسوء الفهم، والتضليل، ناهيك عن إمكانية العثور على صلات للنسب والقربى بين الأحداث المعنية، مجتمعة، إلى حد يبرر حصرها في إطار تفسيري واحد، يمكن القول، بقليل من المجازفة: إنه «سلام إبراهيم»، وإن في الأحداث نفسها ما يُسلّط مزيداً من الضوء على ما فيه من دلالات مُعتمة.
ولنبدأ بصفقة تبادل «الأسرى»، «الرهائن» (سّمها ما شئت) بين سورية وإسرائيل، بوساطة روسية، قبل أيام. ولنضع تفاصيلها المُعلنة جانباً، وهي بلا قيمة في كل الأحوال، ما عدا تفصيل سنأتي على ذكره لاحقاً. ولننظر إلى ما يتقاطع فيها في العمق من مصالح ورهانات. فهي ليست سوى قمة جبل الجليد العائم في مفاوضات، لم تنقطع منذ سنوات، بين النظام السوري وإسرائيل.
بعض المفاوضات لقاءات سريّة، وعبر وسطاء، والبعض الآخر بالنيران ترجمة بلغة القوّة لموازين القوى في المفاوضات. والبعض «تقني» تماماً، من نوع الجنود المفقودين في حرب 1982، وأقدم من ذلك رفات الجاسوس كوهين، الذي أعدمه السوريون بساحة المرجة في دمشق عام 1965. وقد شارك الروس في موضوع المفقودين والرفات، وظهرت ساعة يد لكوهن، «استعادها» الإسرائيليون، و»ساعد» الدواعش في موضوع الرفات أيام احتلال مخيم اليرموك، ونبش مقبرته، أيضاً. وكلها من أدوات وعلامات «بناء الثقة».
وفي سياق كهذا، صفقة التبادل الأخيرة علامة على مبادرات «حسن النية»، و»بناء الثقة»، باللغة الشائعة لهذا النوع من المفاوضات. ولكن ما المقصود من هذا كله، وفي معزل عن المفاوضات «التقنية»، والمفقودين والجثث؟ المقصود أن إسرائيل تريد إخراج الإيرانيين من سورية، وأن النظام السوري لا يمانع إذا حصل على «سعر جيّد» بما يحفظ ماء الوجه في موضوع الجولان، ويضمن وجوده، ويستعيد علاقته بالعرب والغرب، ويمكّنه من استدراج الموارد المالية المطلوبة لإعادة الإعمار.
وفي الواقع، كل هذه الأوراق في يد إسرائيل. وكلها لا تتنافى مع مصالح العرّاب الروسي (الضامن الثاني لوجود النظام السوري بعد إيران، وحليف إسرائيل القوى)، بل وتخدمها في حالات معيّنة، أما أوراق النظام السوري فتتمثل في ورقة الإيرانيين في سورية، و»حزب الله» في لبنان، وورقة بعض الفصائل الفلسطينية، والبلاغة التقليدية في الموضوع الفلسطيني، وورقة تمكين نتنياهو من الظهور بمظهر السياسي البارع، خاصة عشيّة انتخابات قادمة في إسرائيل. وهي ورقة محدودة الصلاحية بالمعنى الزمني.
لا نعرف، بالتأكيد، إلى أيّ حد يمكن أن يذهب الإسرائيليون في موضوع الجولان. ولا نعرف ما إذا كانوا قد استقروا على فكرة جيّدة بشأن «السعر المناسب» الذي يستطيعون الحصول عليه مقابل هذا «التنازل» أو ذاك، وإذا كان فيه ما يستحق العناء. وهذه، على أيّ حال، أشياء متحرّكة، يرفعها أو يهبط بها ما قد يطرأ على ميزان القوى في الإقليم، والعالم، من تحوّلات.
أما بقية ما لدى الإسرائيليين من أوراق فلا تستعصي بالدرجة نفسها على الفهم، ويمكن مقاربتها بقدر أكبر من اليقين. فترميم علاقة النظام السوري بالعالم العربي، والغرب، في يد إسرائيل فعلاً، استناداً إلى علاقة استثنائية بالأميركيين والخليج، وانهيار المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي (في علم النفس، الفرويدي على نحو خاص، ما يُدعى بالمثلث الغرامي، حقل مدهش للتحليل والتأويل لا يتسع المجال، هنا، لذكره، بل مجرّد التذكير به). والمهم، في هذا الشأن، أن الصين والخليج هما أهم مصدرَين من مصادر التمويل الدولية، وأموال الخليج تبدو أسلم وأضمن من الصين، التي لا تشتغل عند أحد، ولا تحتاج حماية من أحد.
على أيّ حال، ما يستدعي الاهتمام لا يتمثل في كيف ولماذا ومتى أصبحت هذه الورقة أو تلك في يد الإسرائيليين، ولا حتى سعرها أو قيمتها الإستراتيجية في السوق الإقليمية والدولية، بل في حقيقة أن في مجرّد التفكير حتى في احتمال أن تكون من أوراق الإسرائيليين ما يفسّر معنى الكلام عن صعود إسرائيل كقوّة إقليمية، ومحاولة العثور على إطار تفسيري، وبلورة أدواته.
ولعل في هذا ما ينبغي أن يأخذنا، الآن، إلى التفصيل الصغير، الذي أبقينا عليه حتى الفقرة الأخيرة في هذه المعالجة. ففي صفقة التبادل، وعلى «البيعة»، اشترى الإسرائيليون للنظام السوري مئات الآلاف من جرعات اللقاح الروسي المضاد لفيروس كورونا، ودفعوا ثمنها للروس. لا بأس.
ومع ذلك، ثمة ما يستحق وقفة صغيرة، هنا. فالقوّة الصاعدة في الإقليم تزداد مع الصعود صراحة، وتقل حياءً، في كشف القناع عن وجه قوّة كولونيالية، لا تقيم أدنى اعتبار للقيم الإنسانية، ولا تهتم حتى بإرساء دعائم «سلام يدوم» (إذا شئنا استخدام عبارة اختارها نتنياهو عنواناً لكتابه)، وهذا ما يمكن العثور على تجلياته في «التكرّم» على النظام السوري، ومساومات وألاعيب تخص نقل اللقاحات إلى الفلسطينيين، تحت الاحتلال، في الضفة الغربية وقطاع غزة. فحتى في هذا الجانب، الذي لا يحتمل الشطارة، ولا السادية، ولا يحقق انتصاراً لأحد على أحد، يتفوّق الإسرائيليون على أنفسهم في قلّة الحياء. ولنا عودة.