من لم يعايش الحروب لا يعرف ماذا تعني وما هو الذعر المغمّس بالقهر الحقيقي الذي يتبدى في ملامح الكبار ونظرات الصغار الخائفة، واستسلام النساء لقدر الله انتظاراً للموت، مع تمنيات أن تغادر قبل أولادها حتى لا تكويها حسرة الأبناء ولو للحظات، ماذا يعني انتظار الموت المحقق وأن تتمناه لأن الانتظار أصعب من الموت نفسه... هكذا يعيش سكان غزة الذين ألقى عليهم التاريخ بكل أحماله الثقيلة على كومة البؤس التي ترافقهم.
حرب أشرس من كل الحروب وأكثرها توحشاً، كل ما اخترعته الولايات المتحدة من أحدث أجيال الدمار يلقى على رؤوسهم، السماء تتحول إلى جحيم الأرض تبتلع الناس في رمشة عين، وصواريخ تطاردهم تخوض معهم حرب شوارع وتلقي بالجثث على الأرصفة، يا الله ما هذا فقد جربت غزة حروباً سابقة لكن الجحيم الذي فتح نيرانه مرة واحدة يبتلع كل حي.
يتساءل الناس الذين يرتجون من شدة الذعر بعد ما يقترب من أسبوعين، عن نهاية الحرب وهم يعدون حياتهم بالساعات، ففي كل دقيقة موت يتبعه موت بلا توقف، فهذه الحرب لا رحمة فيها ولا حقوق انسان ولا تمييز، حيث الموت يحصد المدنيين والأطفال ولا قوانين وأخلاق الحروب، فلا المدارس ولا الأطفال ولا المستشفيات بعيدة عن القصف، كأنها ثكنات مسلحة، كل هذا وسط صمت العالم الذي كل مرة يفقد كل حواسه تاركاً للآلة الإسرائيلية أن تحرث أرواح البشر.
يتساءل الناس إلى متى؟ وهل هناك هدنة؟ وهل سيوقف العالم هذا الدمار؟ وهل ستتمكن الأمم المتحدة؟ وهل سيتحرك العرب؟ أين الجامعة العربية؟ أين منظمة التعاون الإسلامي؟ أين الأصدقاء؟ أين المحور؟ أين كل شيء، يا لهذا القدر الذي ألقى بهم أمام فوهة الفناء حرقاً أو خنقاً أو قهراً، لأن هناك عالماً يدّعي الإنسانية زوراً وكفراً.
هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها، فإسرائيل التي أدارت سياسات الغطرسة والعناد والفهلوة تجاه هندسة الحالة الفلسطينية دفعت ثمنها، ثم تنتقل لتدفيع الثمن أضعافاً للفلسطينيين، ما فعلته حركة حماس أنها وجهت ضربة كبيرة لقوة الردع حد إسقاط نظرياتها، وهي القوة التي كانت تتأرجح في تقارير قادة الأمن منذ تشكيل حكومة التطرف الأخيرة، ما أفقد هذه الحكومة توازنها وهو ما تعبر عنه شدة السحق لغزة.
بعد السابع من أكتوبر وما ظهر من خطر من قبل حركة حماس اعتبرته إسرائيل خطراً وجودياً تجاوز كل الأخطار الأخرى، لتخوض حربها كأنها حرب النهايات أو كما تعنون صحيفة يديعوت أحرونوت «حرب على البيت»، وما يصدر من تصريحات لقادة إسرائيل عن قرار بتصفية حركة حماس يشي ليس فقط بصعوبة الحرب بل بتعقيداتها والمدة التي ستحاول إسرائيل تحقيق ذلك، فالهدف الذي وضعته أو تسعى له هدفاً أكبر من أن يحتمله قطاع غزة، وهذا يفسر سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها مع قطاع غزة، ومن أجله ربما تحتاج إسرائيل لاقتلاع قطاع غزة أو تفتيش كل البيوت وفوق الأرض وتحت الأرض، وهي مهمة عسيرة وطويلة، لذا كان خيار دفع الناس للرحيل جنوباً لتدخل منطقة فارغة لا تجد فيها من يعرقل مهمتها نظراً لحسابات الخسارة التقديرية التي وضعتها المؤسسة بالمئات من الجنود وهي كلفة عالية.
لذا كان الترحيل هو الخيار الأفضل لناحية حرب برية نظيفة يتزايد الحديث عنها، ولا يواجه فيها الجيش الإسرائيلي أي مقاومة، وبنفس السياق وتحت هذا العنوان الكبير والشعارات والأهداف الكبرى تسحب إسرائيل من الدرج مشروع الترحيل والتوطين في سيناء، وهو المشروع الذي اكتشفته الولايات المتحدة وإسرائيل مبكراً في خمسينات القرن الماضي، بعد أن أدركت الأخيرة أنها ارتكبت خطأ تكديس الناس في القطاع أثناء حرب عام 48 والنكبة، حيث كان بإمكانها الوصول للحدود المصرية حتى رفح ودفع الناس هناك، وما زالت تنتظر اللحظة التي فاتتها منذ سبعة عقود ونصف لمعالجة خطئها.
يحدث كل هذا الخراب والجرائم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.. من يصدق؟ في عصر السوشيال ميديا والبث المباشر وفي عصر الحريات والقانون، في عصر العدالة الدولية والإنسانية يتم قصف مستشفى ويقتل المئات من المدنيين، ولا يستوقف أحد بل يأتي الرئيس الأميركي ليشد على يد إسرائيل معطياً ضوءه الأخضر للاستمرار بلا توقف.
لم ترتجف إسرائيل بعد قصف المستشفى، واستمرت وكأن شيئاً لم يكن، أو كأن الذين قتلوا ليسوا من البشر كما وصفهم يوآف غالنت وزير الدفاع بالحيوانات، هذا يعني أنها تخوض حرباً انتقامية، وتلك أصعب الحروب وأعلاها كلفة، فقد تم تضخيم الخطر من خطر أمني إلى خطر وجودي، وتم إقناع العالم والرأي العام في إسرائيل بذلك، وهكذا يدخل العالم والإسرائيليون في حالة سعار مخيفة حين تكون الحرب على الحياة، عالم يغطي الحرب بكل ما فيها من شراسة، ورأي عام لا يضغط على حكومته لوقفها، وحالة عربية تبدو متلعثمة تجاه ما يحدث كأنها ضربت على رأسها، متلعثمة ما بين موقفها من حركة حماس وسؤال السياسة والحل مع الفلسطينيين، والخشية من أن تضرب إسرائيل ضربتها بالترحيل، ليس فقط في غزة بل يمتد إلى الضفة، ليكون على حساب أمنها القومي، وما بين قلة حيلتها وانخفاض سقفها حد المساعدة الإنسانية دون الحديث عن وقف الحرب التي يعدها الغزيون بالدقائق وبالجثث.
يقول الإسرائيليون إنهم لن يقبلوا أن تكون حماس على الجانب الآخر، إما هم أو «حماس» وفي هذا ما يحمل كثيراً من القلق من دولة وصفها أنطوان شلحت بسيكولوجية الخائف، وحين يكون الخائف مسلحاً فتلك كارثة، والأخطر عندما يتم توفير غطاءٍ دولي لذلك السلاح فتلك مصيبة.