-خبر-كتب:عاطف أبو سيف
2015-11-09
يظل عرفات من هذا النوع من القادة التاريخيين الذين كلما تقدم الزمن تعمقت مكانتهم وترسخت اكثر واكثر. ومع ما كان يتمتع به من حضور خلال حياته الحافلة بالتضحيات والحروب والنزاع والمواقف ومحاولات الاغتيال والافلات من براثن القتل والأسر، فإنه ظل حتى بعد وفاته يستحوذ على كل النقاش حول الماضي والحاضر والمستقبل الفلسطيني. إنه من تلك القلة التي لا تفقد قيمتها بعد رحيلها. فالكثير من القادة والرؤساء ما أن يغادروا قصور الرئاسة أو يرحلوا عن الدنيا حتى تُطوى صفحتهم ويصبحوا جزءاً من التاريخ، ولا يأتي ذكرهم إلا عند الحديث عن الحقبة التاريخية التي حكموا بلادهم فيها إما عنوة او باختيار الناس لهم. فيما القليل يظل حاضراً بعد رحيله، كأن وجوده جزء من استمرار الحياة حتى لو لم يكن موجود فعلياً بجسده بين الناس. هؤلاء القادة الرمزيين أصحاب الحضور الأسطوري في حياة الناس لا يختفون بالمطلق، لأن الأسطورة تظل تعتمل في العقل الباطن وفي تكوين الهوية الثابتة المتجددة، حتى تعزز نفسها. هؤلاء القادة يخلدون ليس لأنهم باحثون عن الخلود، بل لأن مكانتهم تجسدت بقوة بفضل أفعالهم التي إما يُبهر الناس بها لحظتها، أو يكتشفوا مع الوقت الشخصية الخارقة التي وقفت خلفها. إنهم قادة لم يخُلقوا كي يقودوا، بل خلقوا من أجل ان يغيروا مصائر الشعوب التي يحكموها، وهم عادة لا يحكمون شعوبهم إلا بفضل مكانة لا تنتظم وفق أعراف الممارسة السياسية العادية من انتخاب، أو إنقلاب وحكم بقوة السلاح أو غير ذلك، بل بفضل شخصيتهم والكاريزما العالية التي يتمتعون بها والهالة الكبيرة التي يضفونها على ممارستهم السياسية وفعلهم اليومي. هذه الكاريزما لا تجد لها تبريراً في فقه الممارسة السياسية ولا في دهاليز الوعي المتجدد، إذ انها تجد نفسها هناك دون تبرير. انت لست بحاجة لكثير من التفكير حتى تفهم سبب حبك للشخصية الكاريزيمية. إذ أن أصل هذا الحب قائم على وجوده دون مقدرتك على تفسيره أو تبريره. إنها الكاريزما القائمة على الحضور الطاغي للشخصية، مما يجعل الممارسة اليومية الروتينية والفعل السياسي العادي يبدو عملاً مبرراً حتى لو اختلفت معه. وحين يقاس الامر على ياسر عرفات، فإن الفلسطينيين سيجدون باختلاف أحزابهم ومللهم السياسية والفكرية أنهم يتفقون مع عرفات حتى لو اختلفوا معه. ثمة أشياء لا يمكن فهمها في تصرفاته. وهناك مواقف لا تتفق معها حولها، وسياسات تختلف اختلافاً كبيراً عن قناعاتك حول المصلحة العامة، كما أن نظرتك إلى الصواب والخطأ لا تتوفق ربما مع ما يقوم به. وقد تجد أنك غاضب غضباً كثيراً لأنه لا يقوم بما تعتقد أنه التصرف الأصوب، وقد وقد وقد. لكنك في النهاية بينك وبين نفسك تجد ما يدفعك للاعتقاد أنه يعرف ما يفعل، وأن قلقك غير مبرر وربما أكثر من اللازم. والقراءة السريعة لهذا الحضور العميق تكشف الكثير من شخصية عرفات ومن مكانته التي تتجدد مع مرور الوقت. ليس أن في كل فلسطيني ثمة عرفات صغير يرقد في قلبه ويسكن روحه ويهيمن على تصرفاته الوطنية حتى لو كان يختلف مع عرفات فكرياً ويبتعد عنه في الهوى السياسي. فعرفات لم يكن يتبنى أيدولوجيا أو فكرا محددا، كما لم يكن هواه السياسي ليبعد عن فلسطين، التي لم يعرف طريقاً لا تقود إليها، ودرباً لا ينتهي بها. كما أن كل فلسطيني يجد في عرفات التعبير الأبسط والاكثر عفوية عن فلسطينيته، إنه فلسطين بلا أي نكهة أخرى، إنه الوطنية بلا أصباغ أو ألوان صناعية. والأمر الآخر أن مرور الوقت لا يقلل من مكانة هذه الشخصية أو يدفع منجزاتها إلى ركن قصى في الذاكرة. بل على العكس من ذلك تماماً، إذ أن مرور الوقت يساهم بشكل أكبر في إبراز الدور الهام الذي كانت تقوم به. كأن الناس تكتشف تلك القيمة مع الوقت، او أنها تكتشف الفراغ الذي تركه غيابها في حياتهم. وعليه فإن رحيل مثل هؤلاء القادة هو تعميق لحضورهم، وهو طريق آخر لاكتشاف الحقل الكبير الذي تشع منه روحهم على الأمة. وعليه فإن عرفات يظل دائماً حاضراً ليس في البوسترات المنتشرة في كل الشوارع ولا في صالونات البيوت وصدور المحلات التجارية ومداخل المؤسسات العامة والخاصة، بل في ذلك الشعور الخفي بين الناس أنه موجود ولم يرحل رغماً أنه رحل فعلاً. وتأسيساً على السابق فهو جزء من الماضي والحاضر والمستقبل. هل يمكن الحديث عن الحياة الفلسطينية الآن دون الحديث عن ياسر عرفات. بالطبع الماضي الفلسطيني هو حكاية حياة ياسر عرفات بامتياز. ويمكن لسارد او حكواتي أن يروى التاريخ الفلسطيني في القرن الماضي من خلال قراءة تاريخ عرفات الشخصي. اما بصمة عرفات على الحياة الفلسطينية فانها باقية ويصعب تخيل زوالها لسنوات قادمة. فعرفات موجود في كل ممارسة سياسية أو ميدانية فلسطينية يومية. هل يمكن تخيل المستقبل الفلسطيني دون الإشارة إلى العرفاتية والفعل والقعل العرفاتي!! يبدو أن ذلك سيكون صعباً. سنحكي في قادمات الأيام لأحفادنا بعد عقود، ربما، أننا حظينا أننا كنا جزءاً من هذا الزمن العرفاتي، وأن فلسطين مُنيت بزعيم أستطاع أن يجمع شعباً مشتتاً تحت راية واحدة وموقف كفاحي واحد، وان كوفيته شكلت هوية جامعة ودلالة استثنائية في لحظة استثنائية. وسنحكي عن هذا الحضور الذي سيلمسه الأحفاد وهم ينظرون إلى تلك الصور الكثير المنتشرة على الجدران والأبواب، وطابع البريد، وسنقول لهم رغم ذلك فالرجل الذي كان رحيله عاصفة مثل تلك التي فجرها مع رفاق دربه عام 1965، ورحيله غضب عام، يرقد بهدوء ويبتسم وهو يرى فلسطينه مازلت قادرة رغم كل المعيقات والآلام والعقبات على مواصلة الدرب.