وعد الفكرة والحاجة الماسة للتغيير !

حجم الخط

بقلم جمال زقوت

 

 

 هاتفني د غسان طوباسي قبل مجرد التفكير بالانتخابات و كانت تبدو فكرة بعيدة، كان ذلك حول سؤاله الذي نشره على صفحته على الفيسبوك ازاء الحاجة لاستنهاض حراك مدني ديمقراطي يؤسس للمواطنة؛ لم يكن في باله سوى تخاطر الأفكار حول ضرورة مواجهة القلق و الخوف على مستقبل البلد بل و مستقبل وجودنا فيه بفعل حالة الانهيار المجتمعي التي كانت و ما زالت تتهاوى كأحجار الدومينو.

 و لم يكن مفاجئاً لي مئات الردود الايجابية و الاستعداد للانخراط في هكذا عملية ، فالامر لم يعد يحتمل مجرد وصف تداعيات الانهيار ؛ بل التقدم بخطوة عملية تقدم نموذجاً مفاده أننا ليس فقط قادرون على التصدي لأسبابه التي باتت تبدو و كأنها مزمنة، بل امكانية النجاح في وقف الانهيار ، وأن الخراب الذي يُحكم سيطرته على مكونات المجتمع و يتسلل ليهدد جراء ذلك الاحباط مجمل مستقبل القضية الفلسطينية و التضحيات بل و الانجازات التى راكمها شعب فلسطين منذ أكثر من قرن من الكفاح المتواصل ، كان من الواضح أن التصدي لهذا الواقع ليس مجرد أمكانية واقعية ؛ بل أن ذلك يرتقي لمستوى الواجب وطني الذي يستدعي الاستنفار لكل خلايا العقل و لغريزة البقاء الانساني.

 و إن لم نتقدم من أجل ذلك كله فلا فرق بيننا و بين من يعمم ثقافة الخراب و الانانية من الطغمة التي تهيمن على مشهد ضفتي الانقسام ؛ فالساكت على الكفر شيطان أخرس . و قد أتت فيما بعد دعوات الانتخابات وفق قائمة مشتركة لتظهر مدي النزعة التسلطية التي تسعى لترسيخ الوضع القائم و ما فيه من احتكار السلطة لمجرد الاستمرار في التنكر لحقوق المواطنين الذين يضعهم توجه ما يسمى بمشتركة حماس فتح و كأنهم المسؤولين عن تبديد حقوقهم المدنية و الوطنية و كأن الشعب برمته حالة يتيمة سيما أن الفصائل الأخرى كانت بالممارسة عتلة إضافية لاقصاء الناس و الاندماج في دائرة الانقسام الجهنمية وفق المصالح الفئوية الضيقة لهذه الفصائل .

بناء الحركات الاجتماعية بمضمون سياسي ليس مجرد حالة رغائبية و لا هي حالة ايمانية التي تعد الناس بالجنة و المدينة الفاضلة بالدعاء لله و لا حتى بالصلاة كي يضمن تلك الجنة الموعودة، بل هي امتداد لفكرة " وقل اعملوا ..." .

فإذا كان حال بلد الانتفاضة الكبرى حيث كانت قيم المشاركة الواسعة و التضامن الاجتماعي و تحديد جدول أعمال شعب الانتفاضة من الناس ذاتها ، قد وصل اليوم ليس فقط لحالة من الانكفاء والاقصاء الذي هو بمثابة وجه المرآة الآخر للتفرد ، فإن حاجة الناس تستدعي المشاركة و أن تشعر مجدداً بالفعل أنها تصيغ مستقبلها و تساهم في بناء و تصنع ما تصبو اليه من تغيير حده الأدنى الدفاع عن حقوقها .

الوطني و الاجتماعي

كان سؤال الأسئلة الذي يمتثل على طاولة النقاش الوجاهية الضيقة و التكنولوجية الواسعة لبلورة ماهية المواطنة و الحقوق وسبل صون منظومات العدالة و التربية ومبدأ الصحة للجميع و غيرها من الحقوق؛ هو كيف يمكن ضمان تحقيق ذلك دون احداث التغيير في النظام السياسي المتفكك و الذي يتحول يومياً ليس فقط كمرتعاً للفساد و التغول على حقوق الناس و طحنها بعيداً عن بوصلتها الأساسية ، بل الذي بات يتحول كمزرعة فئوية و شخصية للمتنفذين و في كثير من الاحيان للمنتفعين من حاشيتهم.

في وقت أن البلد هي الضحية بناسها و مستقبل أبنائها. لم يكن بالامكان بلورة وثيقة وعد و بيانها التأسيسي دون تقديم اجابات جوهرية و مقاربات جديدة على مفارقتين أساسيتين ، الأولى حالة الانقسام و تمزيق وحدة البلد و مؤسساته السياسية و الخدماتية ، وما تتطلبه معالجة هذا الامر من استعادة مكانة المؤسسة الوطنية الجامعة في اطار المنظمة ليس فقط كائتلاف جبهوي لمواجهة الاحتلال ؛ بل و حاضنة للتعددية السياسية و تطويرها و ليس اجتثاثها بالاقصاء على حساب الوطن و حقوق المواطن الذي لأول مرة يعاقب من حكامه على أساس الجغرافيا الجهوية التي تمزق الكيانية بعد أن كانت رافعتها التاريخية و ما يستدعيه ذلك من حكومة ائتلاف و انقاذ وطنية بعد أن وصل مسار الاتجاهين المصارعين على الحكم و السلطة لطريق مسدود في خياراتهم الاستراتيجية. أما السؤال الثاني فهو كيف يمكن اعادة الاعتبار لحقوق المواطن باعتباره مركز العملية الوطنية وصون قضية شعبنا ومكانتها ومكوناتها. لعلها الحالة المتفردة التي يتقدم فيها حراك اجتماعي بالاجابة على الأسئلة الوطنية الكبرى التى هي جوهر الأزمة الوطنية الراهنة من خلال مقاربة الوحدة التعددية و أيضاً من خلال الربط.

الدقيق بين الاجتماعي الديمقراطي و بين الوطني الكفاحي ، و لاستنهاض الناس من احباطها يمكن انتقالياً اعطاء الأولوية للحقوق الفردية كي ينطلق الناس لاحقاً لإعادة بناء الحركة الوطنية و تعظيم قدرتها الشعبية في النضال الوطني.

هذه جوهر العملية التي انجزت خلال شهرين تقريباً و كانت عملية تشاركية واسعة النطاق شارك فيها المئات من الشباب و النساء و قادة الرأي و المجتمع المحلي بشكل مفتوح ؛ فقدمت نموذجاً ًمتميزاً بان بلورة الحراكات الاجتماعية تمثل حاجة موضوعية للفعل الاجتماعي و الوطني وليس مجرد منتدى للثرثرة و تحيّن فرص القفز لنرجسيات ذاتية تتماهي مع أعراض الأزمة المرضية و توهم نفسها بأنها الحل . من الطبيعي أن يشكل هذا الانجاز تحدياً لكل من عجز عن تقديم الجديد أو الذين يرفضونه من حيث المبدأ و قاوموه بكل ما كانوا قد زرعوا من عفن و تسلط وتشكيك، باعتبار أن مثل هذا الحراك ،و غيره من المبادرات و الحراكات الشبابية و النسوية، يمثل رأس الحربة التي ستعري واقع الاستحواذ الاقصائي المنعزل عن هموم الشعب و المواطنين.

لعل هذا ما يفسر تكالب أطراف تبدو ظاهرياً أنها متناقضة و لكنها في الواقع متحدة في الدفاع عن مصالحها التي تنطوي على ضرورة ابقاء الحال على ما هو عليه أو استمرار الثرثرة في تشخيصه، في وقت هي عاجزة أن تدرك أن بقاء الحال من المحال و أن السيل قد بلغ الزبى و أن المارد قد تململ و بدأ يخرج من قمقم الاقصاء و التهميش و ان يعود حتى لو استدعيت الدولة البوليسية و كل أركان الطابور الخامس.

وعد ليس الرد الوحيد، ولكنه الصرخة التي دوت في طول البلاد وعرضها لمدى حاجة فلسطين و شعبها لحركة سياسية اجتماعية بديلة لحالة الفشل والانهيار ورالاستبداد، وهذا ما يفسر وحدة الفاشلين ضد صرخة الأمل ، واستماتتهم لتحويلها لمجرد صرخة توأد في واد.

وعد إلى أين؟

قرار وعد بعدم التقدم بقائمة انتخابية وتأكيده على أن هذا الحراك له أبعاد استراتيجيه ليس لمجرد محطة انتخابية عابرة، يمكن اعتباره قراراً حكيماً اذا ما اقترن بتحديد هدف مزدوج الأول يتركز في التأثير للمقاربات التي قدمها للخروج من الأزمة الوطنية من ناحية و الربط بين حقوق المواطن و المهام الوطنية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني من ناحية أخرى . والثاني هو أن وعد شرارة و صرخة ضمير تستدعي الانفتاح على مكونات المجتمع الأخرى التي تسعى للتغيير و ليس انقاذ زعامات متيبسة للانطلاق نحو التأسيس لحركة سياسية بهوية اجتماعية تقدمية و ديمقراطية تقوم على التعددية في اطار منابر و تنوع .

 حركة قادرة على تحدي الواقع لتنطلق بديلاً عنه، و تعيد في نفس الوقت للاعبين الآخرين صوابهم وتحفز قواعدهم لاخذ دورهم في مواجهة الخراب بمراجعة استراتيجياتهم الاقصائية ، و أعتقد أنه في هذه الحالة سيشكل وعد أحد أركان هذه الحركة بلونه التقدمي و رؤيته الفكرية، و ليس الخضوع لحالة الترهيب البوليسية التي تستهدف دفعه مجدداً لبيات شتوي طول في حالة الانطوائية التي هيمنت طويلاً على المجتمع و الفاعلين فيه .