عام مضى. الجائحة خلفنا وأمامنا، بمعنى أنها ترسم معالمها وطريقها باتجاهين: التجربة العامة والشخصية أصبحت ملك الجميع للتعلم منها، ولا يزال لديها المزيد لرؤية وقائعها وتسجيلها للتاريخ.
وأحسب أنني بعد عام قد وضعت قدميّ على عتبة التكيُّف مع متطلبات الجائحة، تخاصمت مع ممارسات وعادات أصيلة كانت بمثابة شرط اعتيادي، فقد تأقلمت مع البخار المنبعث من الكمامة، وأحنيت رأسي لقواعد التباعد الاجتماعي؛ ما أمكن.. تآلفت مع «الكورونا» وسلالاتها وذهبت مع التكيف بعيداً.. فأطلقت مجساتي إنذارات الخطر الجسيم، للتكيف مع حقائق أخرى وتصنيف جديد يطلق علينا شريحة كبار السن.. دون انتزاع اعتراف صريح وواضح مني، فلطالما كان نصفي يتعامل مع الحقيقة الرقمية التي تتكثف في عيد ميلادي، بينما النصف الآخر يقف بحيادية كاملة.
في الحقيقة، أمضيت السنة وأنا أهرب من الموت. وليس أفضل من شراء مشاكل الآخرين لفكفكة المخاوف والإنذارات وبيعها للمستهلكين. ليس أفضل من البحث عن تمييع القضية سوى بتوسيعها والنظر إليها من خلال ما يصيب العالم في زمن الوباء، متجاهلين التباين في الإمكانيات والموارد ومصطلحات أخرى من عيار احترام المواطنة والشفافية والعدالة والمساواة، لكن التعويم يفيد الهروب والتهرب وتهريب القضايا والابتعاد عمّا يصيبنا في عالمنا الثالث وسعداء به، لا مساءلة ولا محاسبة. ونعزي أنفسنا باستهلاك النصوص الكبيرة وأن العالم قد تساوى في الوباء، الفيروس لا يفرق بين الوزير والغفير، بين الفقير والغني، بين المتعلم والجاهل، بين المدينة والريف والمخيم.
سيبدأ التغيير على يومياتي من بدايات النهار، أن تبدأ صباحاتي بمصافحة أخبار «الكورونا»، يعنى أن تنتهك الجائحة حرمة يومي مبكراً وأن تقتل حلاوته قبل أن أقرر! يعني أن أستهلك الكثير من النظريات حول مناعة القطيع ورغبات الناس في التماثل والتشابه في توحيد ردود أفعالهم طلباً للحماية الجماعية. يعني أن أقرأ تحليلات حول التخلص من كبار السن كعبء اقتصادي على العالم كطفيليات غير منتجة، وأن أزج نفسي في نقاش عن الطبقية والجنسوية وعن خطابات التوحش والتنمر، ومن ثم أن أدعي الموضوعية والحيادية. ويعني أن أتأمل في الفوضى الفكرية التي تجعل من الوباء فرصة سانحة من أجل أن يُجدد الكون نفسه، من أجل أن نعيش ونأكل ونتنفس على نحو أفضل.
سأطالع الأخبار المتفرقة، أحاول أن أبجث عن الأخبار غير السياسية لأخفف من وطأة وطأتي.. أطالع الصفحات الأولى في الصحف الإلكترونية، الجائحة ومتفرقاتها في الأولى، حروب اليمن وحروب ترامب على الصين وعلى منظمة الصحة في الصفحة الثانية.. ومن ثم سلسلة متفرقة من أخبار العراق وإيران وسورية على الصفحة الثالثة. وسأعثر على فلسطين في كل مكان وخبر وحكاية، «الكورونا» تنتشر والاحتلال ينتشر ولا توقفه الجائحة عن مخططاته الجهنمية. أتخاصم مع العالم وأتصالح معه على صفحات الجريدة.
لا أكتفي من طرق لتزجية الوقت، سأبحث عمّا يفعله العالم، عن الغناء والعزف الجماعي من على شرفات المدن المحاصرة بالفيروس، سأفتعل اللقاءات مع الأصدقاء في الشوارع المهجورة والميادين المقفلة، سأجتمع مع هواة المشي وجامعي الزهور البرية. وآخذ الحيطة من فيروسات هاربة من صاحبها مستهدفة رئتيّ.
توثقت علاقتي مع الطعام لتخفيف وطأة الوقت والوحدة والأيام المتشابهة، أصبح الطعام أحد الممارسات العزيزة على قلبي.. الأكل قبل المشي وبعده ومراقبة الوزن صعوداً وهبوطاً على وقع المزاج. تعودت على صرف بعض الوقت على «الزووم» والشبكات العنكبوتية، والانضمام إلى عدد وافر من المجموعات ذات الأهداف المتنوعة لأقاطعها بعد حين، لم يرق لي التكيُّف مع ممارسة عبث التنقل بين المتناقضات.
سأفتقد الأبناء أكثر من أيّ مرة، الخوف عن بعد، الخوف الذي يختبئ ولا يُسمح له تظهير نفسه ومعاناته، سأجتهد في تصوير الأمور كما لو أنها على ما يرام.. سأقرأ خشيتهم المغلفة بالتهذيب من إصابتي بعدوى المرض، وأعود للشعور بمشاعر كبار السن التي لا تروق لي ولا أشعر بها، سأسأل نفسي إن كنت في حالة خصام وانفصام عن الواقع، سأرد على نفسي بالنفي.. بينما يتكوّم الرقم أمامي.. أشاكسه وأدق عنقه بإرادوية كاملة.
2024 عام الكارثة والبطولة.. 2025 عام الحسم
31 ديسمبر 2024