عن إعادة إنتاج أساطير إسرائيلية مؤسسة

حجم الخط

بقلم أنطوان شلحت 

 

تخضع عملية إعادة إنتاج الأساطير المؤسسة لإسرائيل كيانا إحلاليا إلى ما يمكن اعتباره بمثابة وتيرة دورية، قد تطول وقد تقصر، تبعًا لما يستجدّ من ظروف، كما يمكن أن نلاحظ ذلك من متابعة جدل دائر في الآونة الأخيرة بشأن تلك الأساطير، سواء في وسائل الإعلام، أو حتى في نطاق الكتابة البحثية، على خلفية الأزمة السياسية الداخلية الحالية المستمرة منذ عامين.

ويكمن الحافز وراء هذه العملية، عادةً، في خوفٍ متأصل من أن تترتب على مناقشة هذه الأساطير أي تأثيرات، وإن كانت بسيطة وسطحية، كما هي الحال هذه الأيام في ضوء جدل محتدم حول مقولة الكاتب والناشط الصهيوني يسرائيل زانغويل (1864- 1926)، وفيها أن جوهر غاية الحركة الصهيونية تحقيق هجرة شعب بلا أرض (اليهود) إلى أرض بلا شعب (فلسطين). وبينما كان التعاطي في الماضي مع مختلف اتجاهات نقد تلك الأساطير، أو تياراته، يتم على طريقة “القتل بالإهمال”، فإن التعاطي الراهن يستثمر أسلوبًا تحايليًا يحاول تضخيم التأثيرات المترتبة على أداء تلك التيارات، لا لأنها قد نفذت فعلًا إلى الواقع الإسرائيلي الآن، وإنما أساسًا في سبيل تزيين طريق التمسّك بمفاهيم قديمة.

وتعتبر السلطة الإسرائيلية والضاربون بسيفها حتى محاولات محاكمة هذه الأساطير وفتح السبيل للهجس ببناء مجتمع ينأى بنفسه عنها إلى ما هو أكثر واقعيةً، سيما في علاقته مع قضية فلسطين وديمومتها، حيّزًا خطرًا للغاية، بل ومحظورًا لا يجوز الاستئناف على احتكارها له، كما لو أنه من اختصاصها فقط. وهو ما انسحب أيضًا، في الآونة الأخيرة، على أساطير أو مسلمات صنمية أخرى مؤسّسة، على غرار مفهوم الدولة اليهودية بديلًا لمفهوم دولة اليهود، والأمن الفردي غير المنفصل عن الأمن القومي الجماعي .. وما إلى ذلك.

بخصوص أسطورة أن فلسطين أرضٌ بلا شعب، تجسّد أحد تجليات إعادة إنتاجها أخيرا في دفع تهمة إنكار وجود شعب آخر في هذه الأرض عن قائلها، حيث ذكر المتصدّي لهذه التهمة أن زانغويل عندما أطلق مقولته لم يقصد بها أن يُنكر وجود شعب في فلسطين إبّان استعمارها صهيونيًا، بل تطلّع إلى أن يتحدّث عن عودة الشعب اليهودي إلى بلده. وتعني مقولته أن لهذا الشعب أرضًا هي فلسطين (أرض إسرائيل، وفقًا لتسميتها الصهيونية)، كما أن لهذه الأرض شعبًا هو الشعب اليهودي، ولكن صلته بها غير متحقّقة من الناحية العملية، كونه لا يعيش فيها، ولذا فهو “شعبٌ بلا أرض”، وبموازاة هذا لا تقوم فلسطين بما هي منذورة له منذ القدم بأن تكون “أرض الشعب اليهودي”، ولذا فهي “أرض بلا شعب”.

في ما تتضمّنه هذه العبارات ما يحيل مباشرة إلى دحض ادّعاء مكرور مؤدّاه أن قباطنة الصهيونية كانوا يجهلون وجود شعب عربيّ في فلسطين، إلى ناحية تأكيد أنهم تجاهلوا وجود هذا الشعب على نحو عامد، وعلى النحو نفسه خطّطوا مسبقًا لاتخاذ كل الخطوات التي ترمي إلى تجريده من وطنه، وإحلال مهاجرين مستوطنين آخرين محله. يجب التنويه كذلك إلى أن المنخرطين في إعادة إنتاج الأساطير المؤسّسة لا ينعتونها كذلك بتاتًا، بل يعتبرون السلام، والديمقراطية، وسلطة القانون، بمنزلة أساطير. وداخل ذلك ينزعون إلى القول إن جعل السلام قيمة عليا إنما يعرّض الدولة اليهودية للخطر لأن العالم الذي تريد إسرائيل الانتماء إليه لم يصل إلى وضعه الراهن عن طريق السجود لآلهة السلام! ناهيك عن أن وضع النقد في خدمة “أيديولوجيا راديكالية”، كما يُتهم كل من ينحو منحى محاكمة الأساطير المؤسسة، يحوّله إلى أداة سلبية. وكل وجهة نظر لا تدور في فلك الإجماع القومي الصهيوني هي أيديولوجيا كهذه.

ولئن كان سجال كهذا يشفّ عن عوامل باطنية في المجتمع الإسرائيلي، فإن هذه العوامل هي التي تسهم، بقدر ما، في تحديد الأجندة الإسرائيلية العامة حيال مسائل مهمة ترتبط بالصراع واحتمالاته المقبلة.