خيط رابع، عرب جيّدون..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

نلتقط، اليوم، خيطاً رابعاً يتصل بخيط أوّل في معالجة قبل أسبوعين، وينفصل عنه. قلنا في تلك المعالجة إن «القائمة العربية الموّحدة» تشكل حجر عثرة في طريق تكوين جبهة فلسطينية واحدة مُوّحِدة وموَّحَدة. وقد جاء هذا، أيضاً، في سياق الكلام عن هندسة الحقل السياسي لهذا الجزء من الفلسطينيين من مواطني الدولة الإسرائيلية، على يد سلطة وأجهزة الدولة نفسها.
وإذا جاز اختزال مشروع الهندسة، على امتداد عقود طويلة، فيمكن أن نفعل هذا في عبارة واحدة هي كيفية تحويل هؤلاء إلى «عرب جيّدين». وهذه الصفة نستعيرها من كتاب المؤرخ الإسرائيلي هِلل كوهين، التي استعملها كعنوان لكتاب يحمل العنوان نفسه «عرب جيّدون: أجهزة الأمن الإسرائيلية وعرب إسرائيل 1948-1967» (2010).
لم يشتغل كوهن في الكتاب المذكور على ما يمكن تسميته بسوسيولوجيا «الحكم العسكري»، الممتد بين التاريخين المذكورين في العنوان، ولا على العلاقة الوثيقة بينها وبين ديناميات وآليات الضبط والرقابة في أيديولوجيا الكولونيالية، التي تتجاوز الظاهرة الإسرائيلية، في الواقع، وتندرج في إطار تاريخ عالمي أوسع.
كل ما في الأمر أنه اشتغل على الضبط والرقابة، بالمعنى الأمني، وكان معنياً على نحو خاص بتسليط الضوء على شغل «العملاء المحليين»، الذين خرج بعضهم في سنوات «الحكم العسكري» في جولات ليلية في دروب قرى وبلدات وأحياء بائسة ومظلمة لضبط مستمعي «صوت العرب» من سكّانها بالجرم المشهود. وكان قد اشتغل على الموضوع نفسه في كتاب سبق بعنوان «جيش الظلال: تعاون الفلسطينيين مع الصهيونية 1917-1948». ولتحقيق الغاية نفسها: كان ثمة الكثير من العملاء، دائماً.
ولا ينبغي، على أي حال، التشكيك في خلاصة كهذه، بصرف النظر عمّا ينجم عنها من جراح نرجسية. ولكن ثمة ضرورة للقول إنها قليلة الأهمية في حسابات الحقل والبيدر، لا بدليل فشل مشروع الهندسة وحسب، ولكن لأن التوليف الإبداعي لهوية وطنية فلسطينية، صاعدة وواعدة، وُلد في جانب كبير منه في تلك البيوت، التي أنصتت سراً «لصوت العرب»، أيضاً.
والواقع أن ما غاب عن كوهين في استقصاء ملامح مشروع الهندسة يجد قدراً من التعويض في كتاب بعنوان «نزع السحر عن الشرق: الخبرة في الشؤون العربية والدولة الإسرائيلية» (2008) لأكاديمي إسرائيلي آخر هو غيل إيال. وشاءت الظروف أنني نشرتُ ترجمة عربية للكتاب بعد عام على صدوره.
والمهم، في هذا الشأن، أن إيال يناقش نقطة مركزية في علم الاجتماع الإسرائيلي (قبل تمرّد علماء الاجتماع الجدد، بطبيعة الحال) هي التركيز الشديد والانشغال الدائم بموضوع «القرية العربية»، وما يتصل بالحمولة والعائلة في شبكات وعلاقات القوّة والقربى، ووظيفة هذا كله كتمثيل للتخلّف العربي والشرقي في مرآة التقدم الغربية الإسرائيلية، ودور المستعربين وخبراء الشؤون العربية في تمثيل وتفعيل آليات الضبط والسيطرة، وتوليد وتوطيد صور نمطية للعربي الذي يمكن أن يكون «جيّداً» فعلاً بقدر ما يمكن أن يكون «متخلفاً». وهي الصورة التي ألحقت الضرر بالمستعربين أنفسهم، الذين قلل شبههم بالعرب من إمكانية الثقة بهم، أيضاً.
ولا ينبغي التهوين من دلالة وأهمية خلاصة كهذه. فبريطانيا أنشأت «الأحزاب الزراعية» في فلسطين الثلاثينيات لإجهاض الحركة الوطنية بافتعال صراع بين المدينة والريف. وإسرائيل فعلت الأمر نفسه لإجهاض الحركة الوطنية في أواخر السبعينيات من خلال روابط القرى، التي أنشأها مناحم ميلسون أستاذ الأدب العربي في جامعة تل أبيب، ومستشار ورئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية.
أما موضوع الإسلام السياسي فتاريخه، و»الشغل» عليه، وعلى هندسة «عرب ومسلمين جيّدين» يعود إلى تاريخ الحرب الباردة نفسها، وإلى نظرية «الحزام الأخضر» الأميركية لعرقلة اقتراب الدب الروسي من منابع النفط في الشرق الأوسط. يعني ثمة ما هو أبعد وأعقد من فلسطين والفلسطينيين، وإن كان قد «أصابهم من الحب جانب». وهذا ليس موضوعنا الآن.
على أي حال، ثمة ما يبرر الكلام عن أمرين: ميل أيديولوجيا الهندسة الاجتماعية والسياسية في المخيال الكولونيالي إلى المحافظة. وما ينجم عنها من آثار بعيدة المدى وديمومتها بقوّة الدفع الذاتي، وقابليتها للتأقلم. يعني الأوّل العودة إلى أدوات قديمة لحل مشكلات جديدة. فعلى الرغم من تقدّم علوم السياسة والتاريخ والاجتماع في الأكاديميا الإسرائيلية، إلا أن «عقل» الدولة ما زال أسير «الدفاتر القديمة». ويعني الثاني، وهو وثيق الصلة بالأوّل، أن «القرية العربية» ليست كينونة طبيعية فطرية وعضوية بقدر ما هي صناعة، ومكان متخيّل، أيضاً، تضافرت سياسات اقتصادية واجتماعية مع مخيال كولونيالي جامح في إنتاجه.
وبهذا المعنى يمكن قراءة ما يعتمل في قلب الحقل السياسي الفلسطيني، على السطح وفي العمق، داخل «الخط الأخضر»، بوصفه إما مقاومة لمشروع هندسة «العربي الجيّد»، أو نتيجة له، ومحاولة للتأقلم معه. ولعل في النتيجة، كما في محاولة التأقلم، ما يُفسّر خصوصيات جغرافية وسوسيولوجية تجلّت في قاعدة انتخابية بعينها، وحصدت نتائجها جماعة إسلاموية ومنشقّة (يعني جمعت «المجد» من طرفيه). وهذا رابع الخيوط.
نتكلّم في المعالجة القادمة عن احتمال انفتاح الحقل السياسي الفلسطيني، داخل «الخط الأخضر»، للمرّة الأولى في تاريخه على الخليج بعد «تطبيع» العلاقات مع دول في مجلس التعاون الخليجي، والعلاقات المتينة، تحت الطاولة حتى الآن، مع أعضاء آخرين. يعني فاصل ونواصل.