قبل خمسة عشر شهرا من الآن كان الفلسطينيون يدفعون من الدماء ما يساوي عشرة أضعاف ما دفعته فرنسا في العمليات الإرهابية التي ضربتها ليلة الجمعة الأكثر حزنا في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي لباريس .. كان العالم يقف متفرجا على ما ترتكبه إسرائيل من مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين الأبرياء .. نموذج مجزرة أخرى في العاصمة الفرنسية مدعاة للحزن الشديد على عالم كأنه أصيب بالجنون دفعة واحدة وبات الخوف هو سمته الرئيسية. لا تعني المقارنة التخفيف من وطأة ما حدث بفرنسا بقدر ما هو تعاطف مع كل الضحايا في الكون وأولهم الفلسطيني الضحية الدائمة على مدار التاريخ ودائم التحفز لاستقبال المجزرة المتكررة، فلا فرق بالمعنى الإنساني بين روح وروح وقتل وقتل وإرهاب وإرهاب، فالذي كان يعطي أوامره بحرق رفح قبل أكثر من عام لا يختلف إطلاقا عن الذي يرتكب مجزرة بيروت في الضاحية، وهو يشبه تماما الذين ارتكبوا مجزرة باريس كل منهم يعتقد أن الله أرسله لقتل البشر. مارد الجنون انفلت من القمقم ليطال كل شيء وأصبحت منطقتنا العربية المصدر الأول لهذا الجنون .. كيف لم نستطع أن نعيش ونتعايش ونبني دولا آمنة كما العالم .. ليس هذا وحسب بل أننا نقوم بنقل تجربة العنف إلى العالم .. تفجير الطائرة الروسية .. تفجير في بيروت، تفجير في فرنسا ولا يعلم أحد أين ستكون المجزرة القادمة، كيف انفلت كل هذا وتحول العالم من عالم آمن إلى عالم يخشى من كل شيء .. صحيح أننا نصدر كل هذا العنف ولكن كان العالم العربي آمنا وكانت أوروبا أكثر أمانا قبل غزو العراق وقبل ما عرف بالربيع العربي الذي ركبت موجته دول أوروبا وأولها فرنسا التي سال لعابها على النفط الليبي. التاريخ يكرر نفسه بما لا يمكن تبرئة القوى العظمى من صناعة الإرهاب في العالم، صحيح أننا نحن العرب والمسلمين تم استخدامنا كوقود لتحقيق مصالحها، لكن تلك القوى لم تتعلم من تجربة التاريخ لأن النهاية الطبيعية هي أن الإرهاب ينقلب على صانعيه أنفسهم، ففي الثمانينات قامت الولايات المتحدة باستخدام المجاهدين في حربها ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وهؤلاء شكلوا نواة تنظيم القاعدة الذي ضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك مطلع القرن، طبعا كان لدول الخليج آنذاك دور في تمويل حرب واشنطن في كابول بالمال وثقافة العنف. وقد فتحت المسألة السورية عش الدبابير الذي لن يهدأ قبل أن يلسع الجميع وأولهم الدول التي شاركت في صناعة المأساة السورية، بل أن الصراع ذهب أبعد من ذلك ليفتح على صراع مذهبي كفيل بتفتيت كل الدول العربية التي تجمع في سكانها ما بين الشيعة والسنة، وقد عزز هذا الصراع أموال البترول وفتاوى شيوخ النفط، هذا كله أدخل المنطقة في الفوضى الخلاقة. لكن مخططي تلك الفوضى وصانعيها أخطؤوا الحسابات حين اعتقدوا أن الفوضى ستبقى محصورة في منطقتنا العربية ولن يكون لها تداعيات في العواصم الأخرى. ها هو الجنون ينفلت من عقاله وباتت كل العواصم تعيش الهاجس الذي تعيشه الدول العربية والتي كانت هادئة قبل إزاحة الرئيس العراقي صدام حسين والقذافي والمحاولة المستميتة لإزاحة الرئيس السوري وتفتيت سورية وتجفيف حزب الله. روسيا المنافس الأكبر للغرب وللولايات المتحدة الأميركية رأت نفسها تنجر إلى هذا الحريق للمحافظة على مصالحها التي بات يتهددها الدخول الغربي والخليجي وفي حرب استباقية ضد مجموعات من المقاتلين الروس والشيشان الذين سيعودون إليها بعد هدوء المعارك في سورية، هذا إن هدأت، وقد تكون تلك فرصة للغرب والولايات المتحدة للانتقام من روسيا بدعم أكبر للمجموعات المسلحة في سورية أو ضرب المصالح الروسية كما حصل للطائرة التي انفجرت بعد إقلاعها من شرم الشيخ، لكن المؤسف في كل هذا بالنسبة للفلسطينيين هو السؤال عن الدور والمصلحة الإسرائيلية والفلسطينية، فقد حاولت إسرائيل الربط بين الهبة الدائرة حاليا ومقتل الإسرائيليين وبين داعش من خلال استخدام الذبح والسكين، لم يتعاط معها أحد لكن عمليات ضد الفرنسيين قد تقنع العالم بأن إسرائيل جزء من العالم الحر أو جزء من «محور الخير» الذي يقاتل ضد «محور الشر» فهم إلى جانب العالم يتعرضون لـ «الإرهاب الإسلامي» بدءا من القدس والخليل وانتهاء بفرنسا، وقد عززت هذا الانطباع بالدور الذي لعبته في الكشف عن سقوط الطائرة الروسية من خلال مراقبة الاتصالات وإرسال الإشارة الأولى لبعض الدول منها الولايات المتحدة وبريطانيا. إن هذه التفجيرات المجنونة التي تتم في بيروت وباريس تزيد ابتعاد العالم عن الملف الأكبر بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين وهو ملف الاحتلال الذي يقوم بعمليات قتل يومية، تشتت أنظار العالم عن الانتفاضة الدائرة، ففرنسا التي كانت تتحضر لتقديم مبادرة للحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين تقوم على حل الدولتين وحدود 67 الآن ستدخل في متاهات مع الداخل الفرنسي وصد العمليات، ولن يعود الاحتلال الإسرائيلي أولوية بالنسبة لها، وقد يمتد هذا العنف لأبعد من عاصمة أوروبية لتنكفئ على ذاتها بدل الانشغال بالمبادرات ووسم بضائع المستوطنات. وربما أن مجازر من هذا القبيل تزيد من تعاون أوروبا مع إسرائيل باعتبارها قادرة على إعطاء معلومات وأن لدى الأمن الإسرائيلي ما يمكنه من مقايضة العالم من المعلومات، فإذا كانت أوروبا تتوقف عن استيراد بضائع المستوطنات فإن هذه العمليات تجعلها تستجدي التعاون مع إسرائيل زاحفة .. هذا هو قدرنا حتى عندما يصاب العالم بالجنون، نحن من يدفع الثمن .. هذا ما صنعناه بأنفسنا نحن العرب وما صنعه بنا شيوخ النفط والقبائل .. تدمير الوطن العربي وانزواء القضية الفلسطينية.
من «حرب الأيام الستة» إلى «حرب الست ساعات»: عالم جديد
30 أكتوبر 2023