حـرب الـكـراهـيـة: الـمـهـاجـرون السوريون في عيون الإسرائيليين

1385117_554652787936324_1477696600_n
حجم الخط

هذا الاسبوع، في مقهى في القدس، ثمة تلفاز صامت معلق على الحائط، وأنا اسمع من خلفي امرأة تقول لرفيقتها: "موجة اللاجئين هذه من السوريين، لا أدري... * ما الذي لا تدرينه؟ تسأل الرفيقة. - منذ أظهرهم التلفاز، مع نسائهم وأطفالهم... لا أدري، لا يبدون لي سوريين على الاطلاق. * فماذا يبدون لكِ، إذاً؟ - هو ذا، أنا لا... مجرد يبدون لي... وجوههم ... يجرون أولادهم على الاكتاف. فأجابتها رفيقتها على الفور: "هؤلاء، حتى هكذا، في وضعهم، الان وفي هذه اللحظة كانوا سيذبحوننا جميعنا. انظري ماذا يفعلون الواحد بالاخر في سورية، اخوانهم، فكري ماذا كانوا سيفعلون بنا لو كان بوسعهم فقط". "انتِ محقة"، قالت بتواضع تلك التي تحدثت أولا، "ولكن مع ذلك، الاطفال يؤلمون". فقالت رفيقتها، جميل جدا، كان عليهم ان يفكروا في هذا قبل أن يبدؤوا بكل فوضاهم". استمعت اليهما، وفكرت في السوريين، الذين على مدى عشرات السنين كانوا لنا، في اسرائيل، التجسيد للشيطان: مقاتلات الكوماندو السوري اللواتي يأكلن الافاعي الحية، شنق ايلي كوهن، تعذيب الاسرى الاسرائيليين في سورية، قصف بلدات الجليل، وبالطبع، الحرب الاهلية الوحشية. وفكرت انه الآن، في اعقاب خراب سورية وموجة الهجرة، حصل شيء ما: فجأة نحن، الاسرائيليين، يمكننا أن نراهم في سياق آخر ايضا: رجالا ونساء وشبابا وأطفالا، ممن ظلمهم القدر بوحشية، واقتلعهم من كل ما عرفوه واعتادوا عليه. توجد حركة جديدة في نظرتنا التي تتفحصهم، سيماء جديدة تنكشف لنا فيهم، تعابير وجه وحركات جسد لم نرها في "بنك الصور" الذي خزناه في عقولنا عند الحديث عن سورية. صور كانت تقريبا حصريا في سياق الحرب: مناورات، مسيرات عسكرية، أداء للتحية وهتافات عداء لاسرائيل. فجأة هذه تظهر حركات بشرية: أهال واطفال، فتيات في الجينز، فتيان مع جهاز للموسيقى وسماعات أذن. عيون متألمة، يائسة، آملة. ايماءات حميمة لزوجين. وربما لهم ايضا، للاجئين من سورية، ستتيح الهزة التي يجتازونها لهم ان ينظروا بشكل جديد الى حياتهم؟ لعله سيكون بينهم من يفرحه أن يتخلص من قبضة الاسد التي كانوا عالقين فيها في موقفهم من اسرائيل، قيد الشر والكراهية؟ وهذا قيد داخله، كما يمكن أن يقال، ولدوا، ويبدو أنهم رأوا فيه طريق الحياة الجيدة لهم، او الطريق الوحيد الممكن لهم؛ القيد الذي حبستهم فيه ظروف الحياة، أي، السياسة والخطاب لحكامهم الطغاة، حالة الحرب الطويلة بين اسرائيل وسورية، غسل العقول الذي اجتازوه من الرضاعة، في موقفهم من إسرائيل. وكان ايضا بالتأكيد القيد الذي حبستهم فيه اسرائيل: التهديد الذي تشكله عليهم، قوتها العسكرية التي هزمتهم المرة تلو الاخرى. وربما ايضا هكذا نشأ وجه الحرب الذي اعتاد الشعب السوري ارتداءه امام اسرائيل – دوما ولكن وفقط وجه الحرب – الوجه الذي نحن في اسرائيل أبديناه لهم، كما في المرآة. أو ربما نكون نحن الذين اتخذنا كل الوقت وجه الحرب، ولم يفعلوا هم سوى أن عكسوه لنا. كلنا ننتج العلاقة، بل واحيانا نكون أسرى هذه العلاقة: ضعونا في وضع مستمر من الحرب، فنكون مقاتلين، وكارهين، وقوميين متطرفين ومتزمتين. سنكون اناسا مغلقين. ولكن اعطونا شروط وجود حسنة، آمنة، محترمة، او حتى انظروا فقط الينا: فسترونا، اجتهدوا كي تستخلصوا وجه الانسان عندنا من بين الشطب الكبير الذي يمس بكل من ينجرف، بغير صالحه، الى داخل حركة كبيرة اقتلعته من مكانه – وعندها يكون احتمال لنستعيد ما خسرناه. ومرة اخرى، الافكار عن التشويه الذي يحدثه فينا العداء العميق الذي داخله تجري حياتنا منذ بضعة اجيال وليس فقط في علاقاتنا مع سورية. وعن الثمن الذي ندفعه، ثمن الانكماش والتسطيح الذي نجريه لاولئك الذين يقفون امامنا، اولئك الذين نحددهم كعدو – بما في ذلك العدو من الداخل، من اليمين او من اليسار – الذين من اللحظة التي صنفوا فيها كعدو، يفقدون في نظرنا تركيبهم، وكامل وجودهم. والاحساس بأن الآليات الحديدية لهذا القيد، قيد الحرب والكراهية، تعمقت في عروقنا لدرجة أنه بات من السهل ان نؤمن بانها عظام وعضلات جسدنا. انها طبيعتنا. انها طبيعة العالم كله، دوما، الى الابد. أمور ليس لها مستوى، ليس ثمة طريق لقياسها. وهي تقوض أساسات البيت: مهانة الوجود داخل حرب مستمرة لم يعد يحاول أحد بجدية انهائها. ومهانة التكيف الطائع مع الحركات القاهرة للحرب. ومهانة اننا بتنا كالدمى التي تشدها الخيوط في أيدي اولئك الذين الحرب هي بالنسبة لهم طبيعتهم الثانية، وفي واقع الامر – طبيعتهم الاولى. وعلى أننا نجتهد لنعثر على ايديولوجيا اخرى تستهدف تبرير وتعليل التشويه الذي يصرخ الى السماء، في وضعنا. شعب يعيش الحرب – يختار المقاتلين ليقودوه. في هذا منطق ما قد يفترض به أن يساعد على البقاء. ولكن يحتمل أن يكون العكس بالذات هو الصحيح: لعل الزعماء المقاتلين، الكفاحيين، الذين يمتلئ وعيهم بالشك والهلع، يحكمون على شعبهم بان يعيش في حرب مستمرة؟ يجدر بنا ان ننظر الى وجوه الرجال والنساء السوريين الذين يهربون من جحيم بلادهم. دون أن ننسى سنوات الحرب والكراهية التي تقف بيننا، يجدر بنا أن ننظر اليهم جيدا، إذ فجأة، مثلما لاحظت المرأة في المقهى، يطل من هذه الوجوه شيء ما معروف. قد يكون ذاكرة اللجوء المغروسة فينا، او أضرارا ما انسانية نعرفها جيدا، ترتبط بمعرفة هشاشة الوجود ورعب من تسحب الارض من تحت اقدامه. للحظة ما يثور التساؤل هل هؤلاء هم الناس ورفاقهم ممن قاتلناهم عشرات السنين؟ وعندها يطرح السؤال الاكبر: ما الذي نفوته ايضا، وعما تعمى عيوننا ايضا، حين تكون رؤوسنا عالقة عميقا في القيد؟ عن "هآرتس"