في آخر الوقائع التي لازمت إحياء مناسبة ذكرى الهولوكوست في إسرائيل، الأسبوع الفائت، يُمكن ملاحظة أن هناك تواترًا أبعد مدًى في المقاربة التي ترى أن مجتمع دولة الاحتلال يشهد أكثر فأكثر ظواهر شبيهة، إلى حد كبير، بتلك التي كانت في ألمانيا النازية قبل عشرات السنين.
ومن هذه الظواهر أشير، مثالًا لا حصرًا، إلى جماعات “شبيبة التلال” الاستيطانية التي تمارس الإرهاب ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم في الأراضي المحتلة منذ عام 1967. ونحا الذين قارنوا بين هذه الجماعات وممارسات النازية نحو التشديد على أنها تشتطّ في السنوات الأخيرة بسبب هيمنة حكم اليمين الإسرائيلي الجديد، الذي يشكل السند الرئيسيّ لها ويعاملها بقفّازاتٍ من حرير، كما تثبت قرائن دالّة كثيرة آخذة بالتراكم.
غير أن ما يجدر الانتباه إليه أنه، داخل هذه المقاربة، بتنا، في الآونة الأخيرة، نصادف أيضًا من لا يعيد سبب شطط تلك الجماعات الإرهابية إلى هيمنة حكم اليمين، بل بالأساس إلى وجود فكر مؤسّس لها داخل ألوان الطيف الصهيوني، منذ تأسيس الحركة الصهيونية. وهو فكرٌ يتمثل في العداء للفلسطينيين وحقوقهم، والسعي إلى طردهم من الأرض الموعود بها “شعب الله المُختار” منذ أقدم الأزمان. والعداء والسعي ناجمان عن الأيديولوجيا الاستعمارية الصهيونية المعتمدة على مبدأ التفوّق اليهودي، وهي التي يجب أن تكون عنوان الكفاح ضدها، وليس فقط تلك الجماعات.
ولفت أحد الذين كتبوا بهذا المفهوم إلى أن الذين يُجرون تحقيقاتٍ أمنيّة مع “شبيبة التلال” بعد ارتكابهم اعتداءاتٍ يركّزون على أن في هذه الاعتداءات ما يستأنف على سلطة الجيش، ولا يهتمون بتاتًا بالأذى الذي يلحق بالضحية، بل عرض أحدهم على أفراد من تلك الجماعات الالتحاق بصفوف الجيش، والقيام باعتداءاتهم من خلاله، بدلًا من نزعة “الاستقلال” عنه.
فضلًا عن هذا المحور، كان في إحياء المناسبة ما يُعدّ استمرارًا للجهود الرامية إلى تكريس الرواية الإسرائيلية المُبرمجة بشأن الهولوكوست، والمنطلقة، إلى حد كبير، من مبدأ الحصرية الذي لا ينفك يجتهد إلى ناحية استنباط ما تُسمى “خصوصية الإبادة” المتعلقة باليهود فقط. ومن ذلك القول إن الدافع الأكثر رئيسية لحملات الإبادة هو أن اليهود في الدياسبورا، وتذكير العالم بضرورة الوقوف إلى جانب الدولة اليهودية تعويضًا عما لحق باليهود من فظائع وآثام، وتعزيز الفكرة القائلة إن الدعاية المعادية للصهيونية هي معادية سامية، وبالتالي فإن محاربتها تستدعي دعم دولة إسرائيل.
غير أنه في ثنايا هذا الاستخدام الأداتي للهولوكوست، تكرّر النأي عن حقيقة أن إسرائيل مدينة في قيامها بالشيء الكثير للمحرقة، ولنتائج الحرب العالمية الثانية. فرئيس الدولة الإسرائيلية، رؤوفين ريفلين، دعا إلى الحفاظ على ذاكرة الهولوكوست ذاكرة مقدّسة. وأكد أن استخدامها أداتيًا من ناحية الصهيونية ينبغي ألا يصرف النظر عن ضرورة “تذكير العالم أجمع بأن دولة إسرائيل لم تكن تعويضًا عن الهولوكوست، وأن الشعب اليهودي لم يولد في أوشفيتز”. .. وداخل هذه الكلمات ثمّة أمنية خفيّة إلى ما يجب معرفته، وثمّة اجتهاد لا يكل لتثبيت الغايات المتصلة بالمحرقة من ناحية إسرائيل في الرواية التي يتبنّاها العالم.
مهما تكن تلك الغايات، هناك اثنتان منها، هما الأكثر وقعًا كما يتم التأكيد عامًا بعد عام: أولًا، توكيد أنَّ “الحق اليهودي” في فلسطين لا ينبع من المحرقة مطلقًا. ثانيًا، عدم رهن إقامة إسرائيل بالمحرقة فقط، بل أساسًا بنزوع “اليهود في كل عصر إلى العودة إلى وطنهم القديم والاستيطان فيه”، كما يرد في “وثيقة استقلال إسرائيل” التي يمكن العثور فيها أيضًا على فكرة التفوّق اليهودي بقولها “في العصور الأخيرة أخذ آلاف مؤلفة منهم يعودون إلى بلادهم، من طلائع ولاجئين ومدافعين، فأحيوا القفار وبعثوا لغتهم العبرية وشيّدوا القرى والمدن وأقاموا مجتمعًا آخذًا بالنمو ذا السيادة اقتصاديًا وثقافيًا ينشد السلام ويدافع عن نفسه ويزفّ بركة التقدم إلى جميع سكان البلاد”، وبكلمات أخرى فإن إقامتها كانت محصلة “العقل اليهودي” الخارق والمتفوّق!
* أنطوان شلحت – كاتب وباحث فلسطيني في الشأن الإسرائيلي