قلق مشروع في رام الله !

حجم الخط

بقلم سليمان جودة 

 

بدا الجوار بين الخبرين المنشورين في الجريدة، وكأنه جوار بين الحق والباطل في الدنيا، ثم وكأنه تعبير عن الصراع الذي لا يتوقف بينهما إلى أن تقوم الساعة!

كان الخبر الأول منشوراً صباح الاثنين في صحيفتنا الغراء هذه، وكان يتحدث عن زيارة قام بها إلى إسرائيل وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وكانت الكلمات المنشورة تصف الزيارة بأنها الأولى إلى تل أبيب لمسؤول كبير في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.

وكان الخبر الثاني منشوراً إلى جوار الأول، وكان يتكلم عن قلق يسود في أوساط القيادة الفلسطينية، لأن بايدن لم يتواصل معها حتى تاريخه، ولم يتصل بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، رغم الإشارات الإيجابية التي تخرج من واشنطن بشأن القضية في فلسطين.

وهو قلق يستدعي إلى الذاكرة قلقاً مماثلاً، كان قد راح يساور حكومة بنيامين نتنياهو فيما بعد العشرين من يناير (كانون الثاني)، عندما دخل بايدن مكتبه البيضاوي في ذلك اليوم من ذلك الشهر، ثم لم يبادر إلى الاتصال برئيس الحكومة في الدولة العبرية، على نحو ما جرت العادة منذ كانت في المنطقة دولة بهذا الاسم.

كان أسبوع قد مر، وأسبوعان، وثلاثة، وكاد الرابع ينتهي، من دون أن يبدو أثر للاتصال الذي اعتاد كل رئيس حكومة مسؤول في تل أبيب على أن يتلقاه من الرئيس الجديد في البيت الأبيض، في خلال أيام من دخوله مكتبه لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة!

وكان الاتصال قد تأخر بأكثر من اللازم، وكان نتنياهو يريده ويترقبه وينتظره، ليس فقط انتظاراً لاتصال جرت به العادة مع كل قادم جديد إلى المكتب البيضاوي، ولكن لأن رئيس وزراء إسرائيل كان وقتها يستعد للذهاب إلى انتخابات انعقدت الشهر الماضي، وكان بالطبع يخطط لتوظيف الاتصال انتخابياً، لعل حظه يكون أفضل في صناديق الاقتراع.

كان يترقبه وفي ذهنه مقارنة تجري بطبيعتها بين دونالد ترمب الذي ما كاد يدخل المكتب الرئاسي في 2017، حتى كان يتصل خلال ساعات لا أيام، وحتى كان اتصاله يأتي ليقول إن العادة التي التزم بها الرؤساء المتعاقبون من قبله، هي بمثابة الدستور غير المكتوب الذي يلتزم به كل قادم جديد إلى الرئاسة الأميركية!

ورغم أن القلق الإسرائيلي في حينه قد بدأ همساً، فإنه ما لبث حتى علا صوته وصار حديثاً يتكرر في وسائل الإعلام، ولكن الاتصال لم يتأخر كثيراً على كل حال، وقد يكون الرئيس الأميركي الجديد وقتها قد بدا وكأنه يسوّق نوعاً من الدلال السياسي مع حليف لبلاده لا مثيل له، ولكنه بادر بالاتصال وبدد خوفاً كان قد بدأ يشيع في العاصمة الإسرائيلية.

صحيح أن اتصاله تأخر عن المألوف، ولكنه جاء في نهاية المطاف، حتى ولو كان انتظار نتنياهو قد طال حتى بلغ شهراً بالتمام.

ولم يكن أحد يتصور أن القلق نفسه سوف يسارع فينتقل من إسرائيل إلى رام الله في الضفة الغربية حيث القيادة الفلسطينية، ولكن هذا ما حدث، ثم هذا ما صار التعبير عن وجوده علنياً لا يخشى من شيء، ولا يخاف من أن يقال إن الرئيس محمود عباس يمشي على درب خصمه الإسرائيلي اللدود في التعبير عن القلق من عدم الاتصال، ثم في الانتظار لعل الرئيس بايدن يترجم إشارات إدارته في شأن القضية إلى فعل.

وإذا شئنا الدقة قلنا إن خبر زيارة وزير الدفاع الأميركي كان يعلو في صفحة الجريدة خبر القلق الفلسطيني، فهل كان ذلك من قبيل ما يقال عن دورات الصراع بين الحق والباطل، وعن أن الثاني يمكن أن يعلو الأول في دورة هنا أو في دورة هناك؟!

ربما يكون هذا هو المعنى الذي سوف يخطر على بالك، لو أنك تأملت موقع الخبرين بعضهما فوق البعض على خريطة الصفحة، فليس هناك شك في أن الفلسطيني صاحب حق مهضوم، ولا هناك شك في المقابل في أن الطرف الإسرائيلي هو الذي هضم هذا الحق، ولكن القضية طوال عمرها لم تكن أبداً فيمن جرى هضم حقه، ولا فيمن هضم هذا الحق على مرأى من الناس، ولكنها كانت على الدوام في مدى قدرة العالم من حول الطرفين على أن ينتصر لصاحب الحق المهضوم.

على مدى عمر القضية كان المسؤولون السياسيون على امتداد العالم يراعون المساواة بين الطرفين من حيث الشكل، فكنت ترى أن المسؤول الفلاني القادم من الدولة الفلانية في زيارة إلى إسرائيل، قد حرص على أن ينتقل منها إلى الضفة على سبيل استيفاء الشكل السياسي على الأقل.
وكانت مراعاة الشكل بين الطرفين تتخللها استثناءات نادرة، وكانت الحالة المغربية في المقدمة من هذه الاستثناءات، عندما أطلقت إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب صيف السنة الماضية على مستوى مكتب اتصال لا مستوى سفارة.

وقتها راجت أحاديث عن زيارة تترقبها الدولة العبرية من عاهل المغرب محمد السادس، ووقتها كانت العاصمة المغربية واضحة حين قطعت الطريق على الأحاديث الرائجة فقالت، إن زيارة كهذه لم يتقرر أمرها بعد، وإنها إذا تقررت فسوف تكون مرهونة بشيئين؛ أولهما إبداء تل أبيب رغبة إسرائيلية جادة في حل القضية، وثانيهما أن ينتقل الملك من إسرائيل إلى رام الله.

وكان وجه الاستثناء في الحالة المغربية أن ملك المغرب يرأس لجنة القدس، وأن الرباط تدرك أن رئاسة كهذه ترتب عليها مسؤولية، وأن المسؤولية تقتضي الدفع بالحل في اتجاه تجاوز الشكل إلى المضمون، الذي لن يكون حقيقياً إلا بإقرار حل الدولتين.

ولو أن كل مسؤول سياسي تلقى دعوة لزيارة إسرائيل بادر فوضعها في هذا الإطار المغربي، لكانت قضية فلسطين قد وجدت حلها من زمان، لأن تل أبيب كانت ستدرك أن غياب هذا الإطار يجعلها عرضة لحالة من العزلة الدولية إذا لم تربط الشكل بالمضمون!

وقد بخلت الولايات المتحدة على الضفة بالشكل، فضلاً على أن تذهب إلى ربطه بمضمون يحتويه، فلم يتصل الرئيس بايدن بعباس كما اتصل بنتنياهو، ولا انتقل وزير الدفاع أوستن من إسرائيل إلى الضفة، ولا حاولت واشنطن أن تبدد القلق الناشئ عن عدم الاتصال.

ولأن الذين يلتزمون المنطق المغربي قلة بين المسؤولين الذين يزورون إسرائيل، ولأن كثيرين منهم يروحون ويجيئون في المنطقة ولا يتجاوزون هذا الشكل في كل الحالات، فلا يمكن للقضية أن تبقى أسيرة الذين لا يراعون ربط الشكل بمضمون، ولا أن تظل تنتظر لعل الدهر يبعث إليها من يراعي ذلك وينتصر لها.

إن منطق السماء أنها تنتصر للحق مهما طالت غربته أو امتد اغترابه، وأن الباطل لا يعيش إلى النهاية فوق الحق، ولا إلى جواره على نحو ما ظهر الأمر في الخبرين المنشورين، ولكن الانتصار الإلهي مشروط دائماً بأن ينتصر أصحاب الحق له أولاً، ومشروط بيقين في أن وعد الله بالنصر لا شك فيه، فالله يريد أن يرى الحق منصوراً بين أهله، ويريدهم منتصرين له قبل أن يطلبوه من السماء!

وسوف يبقى القلق في رام الله من تأخر الاتصال الأميركي قلقاً مشروعاً وفي محله، لأنه قلق على حق ضائع من سبعة عقود، ولأنه قلق على مستقبل قضية عادلة!

* صحافي وكاتب مصري