شاهدت وما زلت أذكر، خلال جولة في معظم المدن الألمانية في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وسائل مختلفة وحديثة للتخلص من النفايات بأنواعها، سواء أكانت نفايات صلبة أو سائلة أو نفايات خطرة أو طبية أو تحوي مواد بيولوجية أو كيميائية أو مشعة.
وكان الهدف الأساسي للطريقة التي يتم استخدامها هو الحفاظ على البيئة بأقل قدر من التلوث، سواء التلوث الذي يمكن إحداثه في الهواء أو المياه أو التربة، وفي نفس الوقت تحقيق عائد اقتصادي، سواء من خلال إنتاج الطاقة النظيفة وبالتالي استخدامها أو من خلال إعادة التدوير والاستخدام مرة أخرى، أو إنتاج الأسمدة العضوية أو إعادة تكرير النفايات السائلة وبالتالي استخدامها لأهداف مختلفة.
ولا عجب في ذلك، ففي تلك الفترة، كانت ألمانيا - وأعتقد أنها ما زالت - تتبوأ المراكز الأولى في الحفاظ على البيئة وفي مستوى الوعي البيئي وفي حملات الدفاع عن البيئة في أوروبا والعالم، وأتذكر أنه في تلك الفترة كان الحزب البيئي الألماني المعروف بحزب "الخضر" يحتل مواقع متقدمة في البرلمان والحكومة، حيث كان رئيس الحزب في تلك الفترة هو وزير الخارجية.
وأتذكر ذلك الآن، بعد أن قرأت خبراً مفاده أن مجلس الوزراء عندنا بدأ نقاشاً حول استخدام مكبات النفايات الصلبة في بلادنا، وبالأخص مكب "زهرة الفنجان" في منطقة جنين، وأعتقد أننا ما زلنا ننتج كميات كبيرة من النفايات بأنواعها، وبالتالي نتخلص من معظمها بطرق عشوائية سواء من خلال الحرق أو الإلقاء أو السكب في الأماكن العامة، ونعرف كذلك أنه يوجد فقط عدد قليل من مكبات النفايات التي تم إنشاؤها حسب المعايير الصحية والبيئية ومنها مكب زهرة الفنجان.
وقبل عام أو ربما أكثر، شاركت في ندوة نظمها ائتلاف "أمان" لمكافحة الفساد حول مكب "زهرة الفنجان"، حيث تم تناول جوانب مختلفة تتعلق به وهو الذي يعتبر وبشكل نسبي، من أفضل الأمثلة لتصميم مكبات للتخلص من النفايات الصلبة في بلادنا، سواء من حيث الموقع، أو البناء، أو عملية الطمر والتخلص من النفايات، ويعتبر مثالاً ناجحاً على إمكانية التخلص من مكبات النفايات العشوائية، غير الصحية والمضرة بيئياً، والمنتشرة بشكل كبير في بلادنا.
ورغم أن مكب زهرة الفنجان بات يخدم مناطق أكثر وأوسع مما كان مخططاً له مسبقاً أو حين تم بناؤه، إلا أن تداخل الاقتصاد مع البيئة والصحة والقرب من السكان، وبالتالي انتشار الروائح الكريهة، يستدعي أخذ كل هذه الجوانب بعين الاعتبار، حين نعمل من أجل تصميم أو بناء مكبات نفايات صلبة جديدة، في المحافظات المختلفة.
والتخلص من النفايات الصلبة وغيرها من النفايات، هي ضرورة بيئية وصحية لنا، حيث إننا الأحوج لحماية البيئة بكافة مصادرها، مع الزخم المتصاعد للنشاط العمراني والسكاني، والمصادر الطبيعية المحدودة، فإن الانتباه إلى الجانب البيئي لكل هذه النشاطات هو أمر مهم، ومن ضمن الإجراءات المطلوب القيام بها في هذا الصدد، بالإضافة إلى تطبيق القوانين البيئية الملزمة، هو إنشاء المكبات في ظل الشروط الصحية والبيئية، وبالتالي الانتهاء تماماً من المكبات العشوائية ومن عملية حرق النفايات في الحاويات.
ومن الإشكالات التي أحاطت أو تحيط باستمرار عمل مكب "زهرة الفنجان"، والتي يجب أخذها بعين الاعتبار هو الموقع، أو المكان الذي من المفترض أن تتواجد فيه مكبات النفايات الصلبة، وبالأخص التأثير على السكان القريبين من الموقع في المنطقة، وليس من الضرورة أن تكون هناك أثار صحية مباشرة، ولكن استمرار انتشار الروائح، بالإضافة إلى الإزعاج، قد تكون لهما آثار صحية غير مباشرة، أو بعيدة المدى على سكان المنطقة، وبالتالي لا عجب أن تتواصل شكاوى المواطنين الذين يسكنون بالقرب من مكب "زهرة الفنجان"، من الروائح الكريهة، وبالأخص إذا بقيت النفايات الصلبة لفترة أطول من المفروض، قبل عملية طمرها.
ومن الأمور الأخرى هو إمكانية وصول النفايات الخطرة، من نفايات طبية وكيميائية وغيرهما، إلى مكبات النفايات العادية، مثل مكب "زهرة الفنجان"، حيث إن طريقة التخلص من النفايات الخطيرة أو التعامل معها تختلف عن التخلص من النفايات العادية، وإذا وصلت هذه النفايات الخطرة إلى مكبات النفايات العادية، واحتمالات تسرب العناصر الكيميائية الخطيرة إلى المياه الجوفية، وهذا بدوره يتطلب إجراء الفحوصات المخبرية الروتينية للعصارة، وكذلك تدخل الجهات الرسمية، من البيئة والصحة والحكم المحلي، للتأكد من أن النفايات الخطرة يتم التخلص منها بأسلوب علمي سليم.
ومن ضمن الإشكالات التي تحيط بمكب "زهرة الفنجان" قدرته الاستيعابية، حيث من الواضح أنه يغطي في الوقت الحاضر مناطق أوسع بكثير مما كان مخططاً له، حيث كان مخصصاً فقط لمحافظتي جنين وطوباس، أما الآن والأسباب مختلفة، لها علاقة بالسياسة والاحتلال والاقتصاد، فإنه يغطي حتى محافظات رام الله والبيرة، ونابلس، وغيرهما. وهذا بدوره، سوف يعمل على تقصير عمر المكب، وعلى إحداث إشكالات تتعلق بعملية الاستقبال والطمر والتعامل مع النفايات المختلفة.
وإذا كانت عملية التخلص من النفايات الصلبة من خلال مكبات بيئية صحية لها الأولوية، فإن التقليل من النفايات الصلبة والسائلة وغيرهما، من الأساس، هو من أحد أهم المبادئ للتعامل مع مشكلة النفايات المختلفة، ومنها النفايات الصلبة، سواء من حيث التقليل من شراء المواد الاستهلاكية التي تستخدم لمرة واحدة فقط، واتباع ثقافة الفصل بين النفايات، كما هي متبعة وبسهولة وبسلاسة وحتى بعائد اقتصادي بالإضافة إلى العائد البيئي، كما بمجتمعات عديدة في العالم، فإن عملية فصل النفايات سوف تسرع أو تشجع عملية إعادة التدوير، وبالتالي الاستفادة من كميات كبيرة من النفايات، مثل الورق والبلاستيك والزجاج وغيرها.
ومثال مكب "زهرة الفنجان"، كمثال ناجح بيئياً في التخلص من النفايات في بلادنا، يستدعي التفكير على المدى البعيد لإبقاء هذا المكب يعمل، بل مع عائد بيئي واقتصادي، أي العمل على إنتاج الطاقة الكهربائية من النفايات أو نتائج عملية تحللها، وهذا ما يتم في الكثير من بلدان العالم، وحتى أن هناك دولاً تقوم بشراء النفايات لإنتاج الكهرباء منها في مكباتها، وبالإضافة إلى إنتاج الكهرباء، فإن إنتاج السماد العضوي بطريقة صحيحة من المكبات ومن ضمنها مكب "زهرة الفنجان" يعتبر من المشاريع الناجحة، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من النفايات الصلبة في بلادنا، هي نفايات منزلية، أي تحوي كميات كبيرة من المواد العضوية والطعام، وبالتالي هناك إمكانية لاستخدام السماد العضوي في المناطق الزراعية القريبة والبعيدة عن المكب، مع عائد اقتصادي وبيئي وزراعي وصحي، مع الحفاظ على المشروع والتخطيط لإنشاء المزيد من مكبات النفايات التي تراعي الشروط الصحية والبيئية.