محاولات توحيد البشرية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

حتى عصر الثورة الزراعية ظل البشر يعيشون على شكل مجموعات متناثرة هائمة على وجهها، ثم بدؤوا يستقرون في حواضر عمرانية بسيطة، وبتدرج بطيء أخذت المجتمعات الإنسانية بالتشكل، وبدأت تتبلور ملامح ثقافات بدائية لها القدرة على توليف مجموعات أكبر، وذات نمط حياتي محدد.
لكن المجتمعات القديمة التي كادت أو نجحت في تأسيس حضارات كانت متباعدة عن بعضها، بلا أي اتصال، وبالكاد تعرف كل جماعة شيئاً عن غيرها، كأنها في محيط شاسع وتعيش في جزر منعزلة.. إلى أن بدأت تلك الجماعات بالتضخم والنمو، والتواصل فيما بينها، بخطوات حذرة، فكل مجتمع كان يرى خطراً محتملاً في المجتمع المجاور، فقد كانت تهيمن عليهم عقلية «نحن»، و»هم».
آنذاك، كان العملاق الأفروآسيوي يضم الأغلبية الساحقة من بني البشر، وقد قامت على ضفاف أنهاره أولى الحضارات الحقيقية في الصين والهند والهلال الخصيب ووادي النيل. وعلى مدى الخمسة آلاف سنة الماضية، كانت تلك الحضارات والثقافات تندمج وتنصهر، مشكّلة حضارات أكبر وأعقد، على حساب الحضارات الصغيرة.
بحسب رأي «يوفال هراري»، وهو مؤرخ إسرائيلي ومؤلف كتاب «العاقل»، كان الأباطرة والتجار والأنبياء أول من آمن بإمكانية توحيد البشر، وأهم من تجاوز القسمة الثنائية التطورية «هم»، و»نحن»، فبالنسبة للتجار العالم كله سوق مفتوحة واحدة، والبشر كلهم زبائن محتملين.. أما الأباطرة الغزاة فالعالم بأسره حدود مفتوحة لإمبراطورياتهم، والبشر رعايا محتملين.. ومن وجهة نظر الأنبياء والمبشرين العالم يحمل حقيقة واحدة، وعلى كل البشر اتباعها، وبالتالي كل الناس مؤمنون محتملون.
تمكن الأباطرة من ضم أعداد هائلة من البشر ضمن الحدود التي رسمتها جيوشهم، داخلها تعايشت الثقافات والطوائف المختلفة وانصهرت المجتمعات المتباينة بهوية سياسية مشتركة، كما نجح بعض الغزاة في توسيع حدود ملكهم حتى شملت أجزاء كبيرة من الأرض (الفرس، الرومان، الإغريق، المغول، المسلمون) وحديثاً الاستعمار.
والغريب أن الاستعمار ساهم بتوحيد سكان أراضي شاسعة كان يصعب توحيدها، نظراً لشدة التمايز والتناقضات في داخلها، فمثلاً الاحتلال البريطاني وحّد شبه القارة الهندية وعزز الروح الهندية الوطنية (في مواجهة المستعمر)، بعد أن كانت ممالك وإقطاعيات لا تخضع لحكم مركزي (لكن بريطانيا عملت على تقسيمها وانتزاع أربعة أقاليم مهمة منها بعد انسحابها وعشية استقلال الهند)، كذلك فعلت في بلدان عربية كبيرة مثل السعودية ومصر والإمارات، والتي كانت مرشحة لمزيد من التقسيم.
وأيضاً، ساهم الاستعمار في توحيد العالم الجديد ثقافياً، أو على الأقل لغوياً، فسكان ثلاث قارات (أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا) جميعهم يتكلمون أربع لغات فقط (الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، البرتغالية) وهي لغات مستعمريهم، وقد اختفت اللغات الأصلية تماماً.
كما نجحت الأديان نسبياً في توحيد أكبر عدد ممكن من الناس، بثقافة وعقيدة مشتركة، وحسب المركز الأميركي للأبحاث «بيو»، المتخصص في الإحصائيات الديموغرافية، وموقع «وورلدماترس»، يبلغ عدد سكان العالم نحو 7.7 مليار نسمة، 16% منهم لا ينتمون لأديان، مقابل 84% منهم ينتمون لـ 22 ديانة كبيرة نسبياً (عدا مئات الديانات الصغيرة)، منهم 2.3 مليار مسيحي (31.2% من مجمل السكان)، و 1.8 مليار مسلم (24.1%)، و 1.1 هندوسي (15%)، ونحو 500 مليون بوذي (6.9%).
ومع أن روح الأديان ورسالتها التسامح والتعايش والسلام، إلا أن واقع الحال يقول غير ذلك، فأتباع الديانات (وحتى أتباع الدين الواحد) في حالة صراع وتحارب منذ أقدم الأزمنة. ولن يستطيع أي دين توحيد كل البشر إلا بالقوة، وإقصائه الديانات الأخرى.
وحسب «هراري» فإن المال شكّل أهم عامل في توحيد شعوب العالم على مر التاريخ، فحتى داخل الدولة لو كنتَ أشد المعارضين للحاكم، ستجد نفسك مهتماً وسعيداً بحمل النقود التي تحمل صورته، كما أن الشعوب المتصارعة تتداول العملات التي تحمل رموز وصور أعدائها، فمثلاً اليوم يكاد يجمع العالم على كراهية الولايات المتحدة، ولكن حتى أشد كارهيها هم الأكثر حرصاً على اقتناء الدولار.
المال والتجارة من أكفأ وسائل الاتصال بين الشعوب والتقريب فيما بينها؛ فالمال خلق نظاماً اقتصادياً جعل العالم مترابطاً على نحو غير مسبوق، لا بل إن النظم الاقتصادية وتغيراتها كانت تسير جنباً إلى جنب مع مسيرة تطور الإنسان اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وكانت النقلات الكبرى في تاريخه نتيجة تغير النظم الاقتصادية (من المشاع، إلى العبودية، إلى الإقطاع وصولاً للرأسمالية)، وهناك مرحلة خامسة في انتظارنا هي الاشتراكية التي ستتوج بالشيوعية، كما تنبأ «ماركس» و»إنجلز»، أو مرحلة قادمة تنهي التاريخ وتوقف عجلته، بتفوق وهيمنة النظم الليبرالية الرأسمالية، كما تنبأ «صموئيل همنجتون» في صراع الحضارات.
الواقع الآن، أن العالم يكاد يكون موحداً بنظام جيوسياسي واحد، تتشارك فيه نحو مائتي دولة تعترف ببعضها البعض، تمثله الأمم المتحدة ومواثيقها، والشرعية الدولية. ونظام اقتصادي موحد تشكله قوى السوق الرأسمالي، ويصل حتى الأماكن النائية في أطراف المعمورة، ونظام قضائي يمثله القانون الدولي، وشرعة حقوق الإنسان.
لكن الموحِّد الأكبر والأهم، هو العِلم؛ فلدى العلماء في أميركا والصين والمكسيك ومصر وإيران وأوغندا والسويد وبوليفيا وكوريا الشمالية وجزر القمر نفس الآراء حول بنية الذرة، وسرعة الصوت، وميكانيكا الكم، وقوانين نيوتن، والموجات الكهرومغناطيسية، وألياف الكربون، وتقنيات النانو، وتركيب الخلية النباتية، والاحتباس الحراري، وعدد المجرات.
وإذ استطاع العلم توحيد العلماء والباحثين حول العالم، فإن تطبيقات التكنولوجيا قد وحدت الشعوب، من أفقرها، حتى أغناها، وبالذات تقنيات الإنترنت وثورة الاتصالات، التي أضحت بمثابة الدين الجديد الذي وحد البشر على نحو لم يحدث في أي مرحلة سابقة من التاريخ. فأي تطور أو تغير يطرأ في شبكة الإنترنت العالمية، وما يتصل بها من هواتف وحواسيب وتطبيقات سيؤثر على العالم كله وبشكل كبير.
على الصعيد الحضاري، منذ منتصف القرن العشرين بدأت الحضارة الغربية تتداخل مع الحضارات العالمية وتنصهر معاً، وتنتقل إلى عصر العولمة، وهي في طريقها لتتحول من حضارة حديثة تشمل كل الحضارات إلى مدنية حديثة تشمل العالم كله، وهذه المدنية ستستوعب الثقافات الخاصة بالشعوب، ولن تلغيها كلياً. وبقول آخر: مفهوم الحضارات الكبرى توقف، لصالح حضارة إنسانية شاملة متعايشة تسمى الحضارة الإنسانية.
لكن العامل الأكثر قدرة على توحيد الشعوب هو «الإنسانية».. الإنسانية تكمن داخل كل فرد، ورسالتها الأسمى هي حماية جوهر الإنسان، وصون كرامته وحريته، وإعلاء قيمته واعتباره ركيزة أي نظام، وأي تغيير أو تطور، ومصدر شرعية أيّ سلطة سياسية أو أخلاقية.