فرق كبير بين ما هو معلن وما يدور في الكواليس حول الانتخابات. الموقف الرسمي المعلن هو التمسك بالانتخابات وبمواعيدها، لكن كثيرين يتشككون في إجراء الانتخابات، والبعض يرجح التأجيل. أمام هذا الموقف المزدوج يستطيع من يرغب في التأجيل سوق معوقات كثيرة أهمها ضرورة مشاركة مدينة القدس، ترشيحا وانتخابا. وفي المقابل، يستطيع من يرغب في إجراء الانتخابات سوق أسباب وجيهة أهمها ترجمة استحقاق التغيير للأحسن. بيان لجنة الانتخابات المركزية حول انتخابات القدس، أشار الى ان 150 ألفا من المقدسيين الذين يحق لهم التصويت يستطيعون فعل ذلك بمعزل عن منع سلطات الاحتلال، ودعا البيان الى تعاون الجميع للبحث في سبل التغلب على منع سلطات الاحتلال.
ما بعد قرار إجراء الانتخابات، خرجت الكثير من المشكلات الى السطح، وبدأ التعرف على مناعة القوى والنخب والمجتمع في مختلف المجالات جليا وأكثر وضوحا. تعرف الناس على الجاهزية ونمط التفكير السياسي والاجتماعي والديمقراطي وكيفية النظر للمشكلات وحلها. كان الأخطر في المشهد الانتخابي، هو الوجود الفلسطيني داخل قبضة الاحتلال الأمنية والاقتصادية والسيادية دون اي تمويه او خداع كما حدث في المرات السابقة. فالاحتلال يقرر مشاركة القدس او عدم مشاركتها، ويعتقل مرشحين وناشطين ويفض اجتماعات ويمنع دخول ناشطين، وسلطات الاحتلال تريد ان تقرر نتيجة الانتخابات، او تضع شروطا مسبقة على الفائزين، فلا يهمها وجود ديمقراطية او عدم وجودها، المهم ألا يوحد الشعب الفلسطيني صفوفه ويطور مؤسساته وأنظمته وقوانينه ويشحذ طاقاته، لإنهاء الاحتلال والاستيطان المزمنين، ولوقف النهب المنهجي للموارد، فضلا عن خروج الشعب الفلسطيني من قبضة السيطرة والتحكم الاستعماري العنصري طويلة الأمد.
الأداء الإسرائيلي المتغطرس، أعاد الاعتبار لمقولة ان الديمقراطية تنتفي بوجود احتلال يفرض سيادته ويتحكم في كل شيء. وإذا كانت الانتخابات السابقة 1996، 2005، 2006 بُررت كونها تعبيرا عن فترة انتقالية، ومرتبطة بمشروع سياسي ما بعد الاحتلال، فإن الانتخابات المزمع إجراؤها في أيار القادم تأتي في سياق المساعي الإسرائيلية المحمومة لتثبيت الاحتلال وفرض «سيادته» على الأرض الفلسطينية، وشطب قضية اللاجئين وتقرير المصير، وفي ظل التراجع الدولي والعربي الرسمي عن دعم حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية. إن فصل الانتخابات عن مهمة إنهاء الاحتلال يفقد الانتخابات مضمونها في الحالة الفلسطينية. لذا من الضروري ان يكون هدف الانتخابات الرئيسي هو الخلاص من الاحتلال. وان يحتل العامل السياسي صدارة المشهد الفلسطيني.
قد يفهم من ضرورة الربط بين إنهاء الاحتلال والانتخابات التراجع عن الانتخابات والاقتصار على طرح برنامج إنهاء الاحتلال، أو التقليل من أهمية الانتخابات تحت الاحتلال. ما يهم بالنسبة للوضع الفلسطيني هو مركزية إنهاء الاحتلال، هذه المهمة التي تحتاج الى بنية سياسة وتنظيمية – مؤسساتية – مركز ديمقراطي - قادر على بناء ثقة مع السواد الأكبر من الناس أولا، وعلى الاستنهاض وإشراك كل من لهم مصلحة في إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني. يلاحظ ان هناك محاولات لقصر الاهتمام والتغيير على الضفة والقطاع وإقصاء كل ما عدا ذلك. الحاجة النابعة من المصلحة الفلسطينية المشتركة تقول، اننا بحاجة الى مركز او نظام سياسي فلسطيني للكل الفلسطيني وهذا يطرح دور منظمة التحرير ودور الدولة المعترف بها عالميا وإقليميا. لكن الاعتراف الدولي والإقليمي بالولاية الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، يقدم فرصة لأن يكون المركز الفلسطيني في هذه الأراضي ليس تقدمة ومنة من سلطات الاحتلال كما حاولت تصويره في السابق، وإنما كحق مشروع ومعترف به، فليس للفلسطينيين وطن غير فلسطين. ويطرح أهمية التغيير انطلاقا من هذا المكان.
الاستراتيجية التي تضع قضية إنهاء الاحتلال في مركز الاهتمام الفلسطيني والعربي والدولي، وتحولها الى قضية إجرائية، تحتاج الى بنية جديدة بمنظومة ديمقراطية، تبدأ بإدخال تعديلات على البنية القديمة وتنتهي ببنية جديدة فعلا. الاحتلال يحاول إيجاد مصالح لفئات عديدة: (عمال وتجار ورجال أعمال وموظفين..). مقابل ذلك مطلوب التعريف بمصالح أكثرية الناس التي لا تتحقق إلا بزوال الاحتلال. الشكل المتاح لتغيير البنية وتطويرها هو الانتخابات التي تأتي في هذا السياق. قد تكرس الانتخابات الواقع السلبي وقد تكون نتائجها شديدة الأهمية.
الانتخابات هنا ليست كأي انتخابات، كونها تأتي في لحظة مفصلية، فيها تحديات سياسية من الوزن الثقيل، وفيها ضعف الثقة بأهلية البنية القائمة (منظمة، سلطة، معارضة). كيف يمكن الرد على التحديات وفي الوقت نفسه تطوير البنية والثقة والاستجابات الشعبية. هذه المعادلة تحتاج الى تضحيات، الى تراجعات، الى ثمن يدفعه كل المسؤولين عن الأزمة الداخلية بتفاوت يتناسب مع الدور والمسؤولية. كان من الأفضل القيام بمبادرات تنتمي الى عنوان محاسبة الذات في كل مرحلة حدث فيها فشل وإخفاق، لكن هذا لم يحدث، ولا يبدو انه حدث والمؤشر على ذلك هو المرشحون في القوائم الانتخابية الـ 36، والخطاب السياسي والإعلامي اللذان لا يختلفان عن السابق. في هذه الحالة، الشيء المتبقي فقط هو التدخل الشعبي من خلال عملية التصويت والانتخاب. في هذا المجال، ينطوي التصويت على ردود فعل وعقاب ورد الصاع صاعين بمستوى من العبثية. وستقرر النتيجة بناءً على حالة المزاج الشعبي المتراكم والمتشكل خلال اكثر من عقد. وبمستوى التدخلات المدعومة بالمال وأجنداته السياسية. غير ان خوف المراكز من الفشل لا يبرر تأجيل الانتخابات، فغياب الثقة الشعبية سيجعل نتائج التأجيل مزيدا من تفاقم أزمة الثقة، ومزيدا من اهتزاز الشرعية، ومزيدا من التفكك والانقسام، والأخطر مزيدا من التدخلات التي ستنطلق من زعم ان الشعب الفلسطيني غير مؤهل لتقرير مصيره بنفسه.
لا مخرج إلا بإجراءات عملية أثناء العملية الانتخابية، إلا برؤية سياسية مركزها إنهاء الاحتلال استنادا للبشر الذين لهم مصلحة في إنهاء الاحتلال، وليس بالتوسل للإدارة الأميركية الجديدة او حتى للرباعية الدولية. الشعب الذي تحترم حقوقه المدنية وحريته السياسية، هو الحامل الحقيقي لتلك الرؤية، ثم لا مخرج إلا بتعديلات في البنية المؤسسية البيروقراطية، دوائر المنظمة ونظام الكوتا الغابر، وبتعديل جوهري في آلية اتخاذ القرار، وبرفع الوصاية عن الاتحادات والمنظمات الشعبية.