عدتُ من زيارة خاطفة لغزة لم تتجاوز اليومين، إلا أنها وبفعل أثر الانقسام والإجحاف وما يولّدانه من شعور عميق بالمظلومية، كانت أكثر من كافية لأدرك النتائج الوخيمة التي تفاعلت وتولّدت بفعل ما أسمته حكومات الاحتلال من كيّ للوعي، ولكن للأسف بأيدٍ فلسطينية، يكاد يضع الناس هناك على مفترق طرق ظالم بين خيارين أحلاهما مرُّ؛ الصمت على الظلم والإجحاف وترك مصير الناس للمجهول تحت شعار الوطنية التي لطالما كانت غزة رافعةً له، أو القبول بأيّ حل يمكن أن يخفف من الحياة المأساوية ومن وطأة ظلم ذوي القربى، مقابل التخلي عن المستقبل والمشروع الوطني الجمعي للشعب الفلسطيني الذي لطالما لعبت غزة دور رأس الحربة من أجل إنجازه، بل وقدّم أهلها أغلى التضحيات على هذا الطريق.
الجيل الشاب الذي نشأ في غزة بعد اتفاق أوسلو الذي فشل حتى في منح الأمل بالحرية وممارسة الحق في تقرير المصير، وما ترافق مع تعمّق جذور الانقسام من ظواهر اجتماعية وإحباط عام. ربما لا يعرف هذا الجيل الكثير عن تاريخ الثورة أو حتى عن الانتفاضتين اللّتين فجرتهما غزة ذاتها، وربما أيضًا لا يهمهم الأمر كثيرًا، بقدر ما يهمه الخلاص من الواقع المرّ الذي وجد نفسه ضحية له.
لا تحتاج لجهدٍ كبير وأنت تتحدث إلى الناس من أعمار وفئات مختلفة كي تكتشف أن هذه البقعة، التي شكّلت على مدار عقود رافعة للوطنية الفلسطينية، قد فعل فعله بها الحصار والانقسام واغتيال الأمل لتكون محيّدة في مواجهة مقصلة تصفية الوطنية الجامعة وتحت ذرائع ومرافعات رغم خطورتها. ربما سيبدو بعضها مقنعًا لدى من يترسخ في وعيه الشعور بالمظلومية يومًا بعد يوم ولا يفكّر سوى بالخلاص. هذا في وقتٍ يعمل البعض وفق أجندات فئوية لا توفر حلولًا استراتيجة لأهل القطاع بقدر ما تستغل ضيق حالهم.
تفاعل الناس في القطاع مع مسألة الانتخابات، وبغضّ النظر عن مواقع ودوافع الانحياز لأيّ من القوائم المتصارعة أو المتنافسة، فإنها جميعًا تلتقي على نقطة واحدة: "ليس لماذا وصلنا إلى هنا، بل كيف ومن يستطيع أن ينشلنا من قاع الحفرة التي سقطنا جميعًا في وحلها". وعلى ضوء من سيقنع الناس بأنه يعرف كيفية تحقيق تلك النتيجة وقدرته على تحقيقها لهم، فإنه سيحصد النسبة الأكبر من الأصوات.
إلا أن ما يجري من تسريباتٍ، واضحة أو خفيّة، حول احتمالية تأجيل الانتخابات، يجعل هذا التفاعل مشوبًا بالحذر ويُظهر الأمل بأنْ تكون الانتخابات هي بوابة الفرج يبدو حزينًا تائهًا بين سكون أمواج بحر غزة في هذا الموسم.
الالتزام بموعد الانتخابات أو تأجيلها بالنسبة لأهل غزة ليس هو القضية الجوهرية، بقدر ما يُشكله الأمل بزوال الحصار والظلم، ولا يعنيهم كيف يحدث ذلك. كما أن الوحدة أو الانفصال أيضًا ليست هي الأولوية، بل قدرة أيّ منهما على إزالة الحصار والظلم وفتح باب الحياة ومعها الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.
مكانة القدس واحتمالية التأجيل
في الواقع لم تكن القدس عنوان من قرروا السير في طريق ما عرف بصفقة الانتخابات بكل مكوناتها بين فتح وحماس، تماماً كما لم تكن أحوال وهموم المواطن الفلسطيني سواء في القطاع أو الضفة بما فيها القدس وضرورة الاستجابة لاحتياجاتهم وتمكينهم من الصمود هي الدافع لهذه الصفقة التي مهدت الطريق لمراسيم الانتخابات، وما رافقها من حراك سياسي واجتماعي غير مسبوق، بل لعلهما كانا قد قررا سوياً تجاوز كل هذه الأمور عبر ما عرف بالقائمة المشتركة بينهما ومن خلال النسبية الكاملة للانتخابات التي كانت واحدة من آليات تجاوز معضلة القدس والموقف الاسرائيلي، الذي لم يمانع كثيراً مكونات هذه الصفقة، مقابل دفع الثمن الضمني الذي تشكل القدس جوهره كقربان منح الشرعية الانتخابية لكليهما، وهما يتسابقان في تقديم ما يمكّنهما من البقاء في نادي التعامل الإسرائيلي مع كليهما وإن كان بأشكال متفاوتة.
لم تتحول القدس لمعضلة إلا بعد فشل إمكانية المضي قدمًا في خيار القائمة المشتركة بين فتح وحماس، والعقبات الداخلية التي واجهتها حركة فتح وأدّت إلى خروج مجموعات إضافية منها، لتُشكل تحدّيًا لفتح الرسمية بقيادة الرئيس أبو مازن. بل ربما السبب الحقيقي لبحث فكرة القائمة المشتركة هو تجاوز معضلة مثل ظاهرة الخروج هذه، بالإضافة إلى الاتفاق على الرئيس أبو مازن. وقد بدأ تظهير معضلة القدس، ليس كأداة لمواجهة المخططات الاسرائيلية الساعية إلى ضمّها وعزلها عن محيطها الجغرافي والديموغرافي والقانوني، بقدر إمكانية استخدامها كمبرر للتراجع عن هذا الاستحقاق الانتخابي وربما طيّ صفحته.
لسان حال الناس المهمشين من اهتمامات كلٌ من السلطة والمعارضة في القدس أنهم خارج أولوية الاهتمام، كما أنهم خارج الاكتراث الجدّي بأوجاعهم، أو تمكينهم من مواجهة مخططات تهويد المدينة. إن إدارة ملف القدس لا تحتمل المزايدات الشعبوية ولا التسليم بالأمر الواقع وعدم قيادة الكفاح الشعبي، سواء قبل الانتخابات -إن تقرر اجراؤها- أو بعدها وفي كل الأحوال، بما يتطلبه ذلك من قيادة وطنية موحدة وجادة لتعزيز صمود أهل المدينة وتطوير كفاحها الشعبي في مواجهة معركة الضم ومخططات الاقتلاع.
أما في قطاع غزة، فإن القدس ومكانتها لا تتقدم على أولوية معالجة الملفات الثقيلة التي يعاني منها الناس، رغم أنها لا تلتقي مع أولويات القوى المهيمنة على المشهد، حيث أن إهمال حقوق غزة والعقوبات التي فرضت عليها كانت السبب الأول في نمو ومنافسة القوى الخارجة عن فتح ونجاحها في استقطاب المستهدفين من تلك السياسات والإجراءات الظالمة. كما أن إعادة صرف رواتب أعضاء التشريعي بالنسبة لحماس تُعتبر أولوية تتقدم على إلغاء ما يُسمى بالتقاعد المالي الأكثر ظلمًا.
موقف الناس في غزة إزاء احتمال تأجيل الانتخابات، بسبب منع الاحتلال للانتخابات في القدس المحتلة، يرتبط شعبيًا وإلى حدٍ كبير بتغيير الواقع الحالي من خلال حكومة جديدة يتحمل جميع من فيها مسؤولية وضع احتياجات المواطنين على رأس أولوياتها، وتقدر مدى معاناتهم المزمنة وقادرة على بلورة حلول ملموسة، ولو متدرجة، لرفعها. ليس فقط بما له علاقة بالحصار الإسرائيلي، بل، وبإلغاء ممارسات طرفيّ الانقسام تجاه أهل القطاع، سيما الإجراءات الإدارية والمالية التي فُرضت على الموظفين. هذا وحده هو ما سيجعل معركة القدس معركة كل الفلسطينيين، وفي مقدمتهم أهل غزة كما كانوا دومًا.
أما سياسيًا، فإن الحديث عن التأجيل قد قدّم لحركة حماس وضعًا متميزًا لمطالبها، حيث لم يعد الأمر بالنسبة لهم مقتصرًا على قضايا الحكم والإدارة وموقع ملفات القطاع في هذه القضايا، بل فإنه يتضمن المشاركة في القرار السياسي ودورها في المنظمة، سيّما بعد تمرير التزامها بشروط الرباعية من خلال الموافقة الضمنية على رسالة السلطة الفلسطينية التي تفيد ،أيضاً ضمنياً، بموافقة جميع المرشحين على شروط الرباعية، وهنا بالتأكيد أقصد مرشحي حركة حماس أساساً، الأمر الذي يضعها على قدم المساواة مع فتح إزاء المطالب الدولية ، مع أن هذه المطالب كانت قد بدت كشئ من الماضي قبل أن تحييها الرسالة طوعاً و من جانب واحد.
التفكير بتأجيل الانتخابات بصورة منفردة وفق قرارٍ رئاسي، دون توافق وطني ومجتمعي مسبق وشامل، بما في ذلك على حكومة وحدة وطنية تضمّ جميع الاتجاهات والقوى السياسية والمجتمعية الفاعلة، سيؤدي إلى انفجاراتٍ اجتماعية وانفلاتٍ أمنيّ ومخاطر سياسية غير مسبوقة من ناحية مستقبل القطاع في الكيانية الجمعية. في وقت أن الإجماع على ذلك له أثمان سياسية على رأسها التغيير في مضمون وشكل إدارة البلاد ومصالح العباد، وبما يشمل وقف التفرد أو التفكير بالمحاصصة على حساب قضايا الناس والمجتمع، والإقرار الفوري بإلغاء والتراجع عن رزمة القوانين التي مسّت الحريات واستقلال القضاء، وبدور المؤسسات الأهلية في التنمية كبديل لتوجه طاقاتها ومواردها في خطة تنموية للاقتصاد المقاوم وتضيق الفجوة بين الضفة والقطاع.
أي محاولة للتأجيل المنفرد والإصرار على استمرار الهيمنة والتفرد، ستدفع إلى إحياء فكرة المضي بفصل غزة بغض النظر عن سيناريو الإخراج، وفي جوهرها استخدام وجع الناس وفقرهم، وربما تهيئة استعدادهم للقبول بأي حل يخرجهم من جحيم المعاناة المتفاقمة.
إزاء هذه المخاطر الحقيقية، يتضح كم نحن بحاجة لرؤية حكيمة وطنية و متماسكة أخرى كالمبادرة التي سبق و طرحها سلام فياض في تموز الماضي، و يكون اساسها وقف استمرار لعبة الروليت الروسية في التعامل مع المصير الوطني، وفي مقدمة تلك الرؤية احترام حقوق المواطن ومكانة الوطن واستعادة وحدة و دور مؤسساته الجامعة ومصيره الوطني الموحد، بما يتطلبه ذلك كله من إدارة للتعددية في إطارٍ من الشراكة لتحمل المسؤولية وفق آلياتٍ واضحة في صنع القرار بمشاركة الجميع دون أي استثناء في المنظمة و الحكومة على حد سواء، و بعيدة عن الاستقطاب الانقسامي المدمر أو المحاصصة الثنائية التي تعمق الفجوة بين مكونات النظام السياسي و نبض الناس و احتياجاتها للصمود . في مطلق الأحوال فإن غزة قد تنحني مؤقتاً أمام ضغط الحاجة و لكنها لن تغير جلدها أو تضحي بمكانتها كرافعة للوطنية الجامعة .