مهما كانت الانتخابات التشريعية مهمة، وربما مصيرية في الواقع السياسي الفلسطيني، ومهما كان هناك من آراء متباينة حول هذه الأهمية، ومهما كانت الخلافات والاختلافات قائمة وحيوية وواقعية أو حالمة، حول كامل دور المجلس التشريعي، وتأثير هذا الدور في إعادة بناء النظام السياسي في الشقّ الخاص «بالقانون الأساسي».. فإنها مع ذلك كله لا ترقى إلى مستوى المصيرية إلّا من زاوية واحدة ووحيدة؛ وهي أن هذه الانتخابات، سواء أجلت أو عقدت، لا يجوز بأي حال من الأحوال، ولا تحت أي غطاء أو ذريعة أن تتحول إلى محطة لانقسام جديد، أو إلى أزمة جديدة، أو إلى مدخل لنفاذ المشروع الصهيوني من بين الشقوق والتصدعات التي يمكن أن تنجم عن هذه التباينات أو الاختلافات.
من هنا فإن المعيار الوطني الأول للتأجيل من عدمه هو التماسك الداخلي النسبي أولاً وعاشراً.
أما المعيار الثاني فهو أن هذه الانتخابات يجب ألا تعقد بأي ثمن أو تؤجل بأي ثمن.
أي أثمان أخرى، مهما كانت غالية ومهمة فهي لا ترقى، ولن ترقى إلى مستوى مكانة القدس، وأهمية القدس في إطار المشروع الوطني من جهة، وفي إطار المشروع الإسرائيلي على الجهة المقابلة.
وعلى هذا الصعيد فإن عقد الانتخابات التشريعية الفلسطينية، بصرف النظر عن الآلية التي ستتم بها، لا يجوز أن ينتقص بأي حال من الأحوال من حقنا في إجرائها وفق قواعد وآليات المرتين السابقتين ـ على علّاتهما ـ وبحيث نضمن كسر الحلقة الإسرائيلية التي تحاول تكريس مبدأ «السيادة» الإسرائيلية، وتكريس بقائها «موحدة» تحت هذه «السيادة»، وبما يحوّل «مبادرة» الرئيس الأميركي السابق ترامب بالاعتراف الأميركي بها [كعاصمة موحدة لإسرائيل] إلى أمر واقع لا يخضع من وجهة النظر الإسرائيلية للتفاوض أو المساومة أو حتى مجرد التداول بشأنها.
وفي ضوء ذلك فإن محاولات «إرجاع» الانتخابات في القدس إلى مخارج «فنية»، أو اعتبارات «رمزية»، أو حتى التعامل معها وكأنها قابلة للحل بتدخل الولايات المتحدة وأوروبا ـ كما كان في المرتين السابقتين ـ هي محاولات فاشلة، لأن مياها كثيرة قد جرت في نهر الواقع السياسي الاسرائيلي منذ آخر انتخابات أجريناها، ولأن الواقع السياسي الاسرائيلي حالياً، وفي ظل الفشل الكبير في تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، بعد الانتخابات الرابعة في المرة الأخيرة قد أدى وهو يؤدي إلى احتدام حالة المزايدات الإسرائيلية حيال المدينة ومستقبلها الحساس في إطار المشروع الصهيوني، وكذلك الإسرائيلي المباشر حيالها.
فكما لا يجوز التنازل عن حقنا في إجراء الانتخابات في القدس ترشيحاً وانتخاباً ودعاية ونشاطاً، وبما لا يقل عن كسر الحلقة الإسرائيلية من خلال هذا الموقف الفلسطيني، فإنه لا يجوز استسهال ضمان الوصول إلى ذلك بوساطة تصورات «فنية»، وذلك لأن إسرائيل تعي جيداً، وتدرك بعمق، ولديها القدرة على تحويل تلك التصورات إلى «رمزيات» شكلية، تكرس ان نتمكن من خلالها، لا تكرار ما جرى في المرتين السابقتين، ولا كسر الحلقة الإسرائيلية، وقد نكون في هذه الحالة قد «شاركنا» في تكريس هذه الحلقة دون وعي منا، أو دون وعي الغالبية منا، وبوعي كامل ومبيّت من قبل أقلية من بين صفوفنا.
المعيار الثالث، هو الكفّ عن إخضاع كل هذه الأهمية، وكل هذه الاعتبارات المهمة والحساسة، وحتى المصيرية بالمعنى الذي أوضحناه إلى المصالح الخاصة والفئوية للتنظيمات والفصائل والقوائم على حد سواء.
هنا بالذات علينا أن نتحدث بكل صراحة ووضوح.
الذين ليس لهم حظوظ جدية في اجتياز نسبة الحسم، أو الذين يخشون على عدم «إنجاز» في هذه الانتخابات، أو ربما لا يرغبون بانكشاف حجومهم الحقيقية يمكن لهذه الأسباب أن يكونوا مع التأجيل.
هنا تكون أمام مأساة سياسية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
والذين يريدون تأجيل الانتخابات لأسباب تتعلق بتخوفهم من فقدان السيطرة والتحكم ومنظومات الهيمنة، أو الذين يرغبون بالتأجيل ولكنهم يعلنون «معارضتهم» للتأجيل لنفس الاسباب ـ اي فقدان السيطرة والتحكم والهيمنة، هم أيضاً يخضعون الاعتبارات الوطنية المفترضة للمصالح الخاصة والفئوية.
وبعض الذين «يندفعون» لإجراء الانتخابات لأسباب تتعلق بفرصتهم التي يتصورونها (فرصة العمر) للحصول على نسبة لم يكونوا يحلمون بها هم أيضاً فئويون ويخضعون الاعتبارات الوطنية المفترضة لمصالحهم، ويعبرون عن توقهم «للظفر» بعدد من المقاعد على حساب تلك الاعتبارات وتحقيقا لتلك المصالح.
الناس وعامة الشعب يعرفون جيداً أصحاب الاعتبارات المنزهة وأصحاب الاعتبارات الوطنية، والناس تدرك منطق التفكير بالمسؤولية الوطنية والمجردة عن المصالح الخاصة وتفرق جيداً بين هؤلاء وأولئك، بل وتعرف جيداً أن ليس كل ما يلمع ذهباً.
مقابل هذه الصورة توجد اعتبارات وطنية حقيقية وراء التأجيل أو الدعوة إليها، وتوجد اعتبارات وطنية ووطنية خالصة وليست خاصة لدى بعض الداعين إلى عدم التأجيل.
الحقيقة أن التأجيل أو عدمه ليس هو بالضبط المعضلة التي أمامنا.
المعضلة هي كيف نحوّل هذا الحراك أو الاختلاف إلى فرصة تمكننا، سواء عقدنا الانتخابات أم لم نعقدها من إجراء حوارات وطنية جديدة، جادة ومعمّقة حول الحالة الوطنية، وحول إشكاليات وتحديات هذه الحالة في هذه المرحلة.
ولدينا فرصة لتعميق الحوار الوطني على صعيد كل أطراف المجتمع السياسي الفلسطيني، وعلى الصعيد المجتمعي والأهلي حول نظام أولوياتنا الوطنية والديمقراطية في آنٍ معاً.
هنا أرى أنه وبالرغم من وجود منطق ما وراء البدء بالانتخابات التشريعية، ثم الرئاسية فانتخابات المجلس الوطني، إلاّ أن المنطق المقابل والمعكوس ينطوي على منطق أقوى ربما لا يقاس.
لماذا وطالما أن المجلس الوطني هو برلمان الشعب الفلسطيني، وطالما أن المجلس الوطني هو أعلى سلطة للشعب حال انعقاده، وطالما أن المنظمة وأجهزتها ودوائرها هي نتاج للمجلس وانبثاق مباشر عن هذا المجلس، وطالما أن السلطة الوطنية (نظرياً) ليست سوى ذراع للمنظمة، وطالما أن الرئيس للمنظمة، هو الرئيس الأهم والأعلى، والذي يمكن أن يكون رئيساً للمنظمة فقط، أو رئيساً للسلطة أيضاً، وطالما أن مهام المجلس التشريعي محصورة في التشريع للسلطة الوطنية، وأن هذه السلطة محدودة الصلاحيات والمسؤوليات ومحصورة على نطاق النظام الأساسي، وليس لها مهمات سياسية وطنية شاملة، فلماذا يجب أصلاً أن نبدأ بانتخابات المجلس التشريعي؟
وماذا لو بدأنا بالمجلس الوطني التمثيلي والتوافقي، وبدأنا بمسار إصلاح المنظمة وبمشاركة الجميع؟ أليس هذا المسار هو الذي سيضع انتخابات المجلس التشريعي، وكامل صلاحيات ومسؤوليات السلطة الوطنية في المكان الصحيح، وبالأسلوب الصحيح، ووفق تراتبية النظام السياسي الشامل، وليس النظام السياسي «المصغّر»، وهو القانون الأساسي؟
هنا سنكتشف الجدية المطلوبة، وهنا ستظهر المصالح الوطنية، وهنا يمكنها أن تفترق عن المصالح الفئوية والخاصة وربما هنا فقط يمكن أن يكون التأجيل هو القرار الصائب.
روسيا: القضية الفلسطينية لم تعد تقبل التأجيل
09 أكتوبر 2023