تعقد جمعية الثقافة العربية في أراضي 1948، سوية مع منظمة “عمق شبيه” التي تحارب سياسة الانتقاء في ما يتعلق بـ”حقوق الثقافة والتراث”، اليوم الأربعاء، مؤتمرًا صحافيًا في حيفا تسلط فيه مزيدًا من الأضواء على سياسة التمييز التي تنتهجها إسرائيل في كل ما يرتبط بالميزانيات المخصصة لمواقع التراث المبني في البلدات العربيّة، وكي تؤكّد ضرورة الحفاظ على هذه المواقع، في سياق التمرّد على محو كل ما من شأنه أن يدلّ على الماضي العربي والإسلامي لفلسطين.
وعلى الرغم من أن الهدف المُحدّد للمؤتمر الصحافي يتمثّل في تعرية موقف ما تُسمى “وزارة القدس والتراث” التي لا تعتبر كل ما هو غير يهودي أو صهيوني تُراثًا يستلزم صرف أموال رسمية للحفاظ عليه، والوقوف عند دلالاته في الحاضر، فإن الغاية الأبعد تكمن في استدعاء الماضي. ويرمي هذا الاستدعاء إلى جعل الماضي رديفًا للتاريخ، بغية استنهاض الحاضر، فما عاد سرًّا أن السعي الإسرائيلي المؤدلج صهيونيًا إلى استملاك الماضي لا يزال منطويًا على حرص كبير بإبراز الرابطة اليهودية التاريخية، الدينية والقومية، بفلسطين، بالتوازي مع حرصٍ، أشدّ وأدهى، على التقليل من أهمية وقيمة الرابطة الإسلامية – العربية التاريخية، الدينية والقومية، بالبلد.
وتتكشف باستمرار وثائق تثبت أن ديفيد بن غوريون، وهو القائد الأقوى نفوذًا في الحركة الصهيونية منذ أربعينيات القرن العشرين الفائت، وأول رئيس للحكومة الإسرائيلية، عمل، في عام 1948 وبعده، بصورة ممنهجة، على محو كل ما كان قائمًا في فلسطين من شواهد عربية، وأساسًا عمل على محو الماضي الإسلامـي. للنمذجة على هذا، يمكن أن نستعيد، مثلًا، تحقيقًا صحافيًا ظهر عام 2007، وأشير، في سياقه، إلى أن قيادة الجيش الإسرائيلي اتبعت سياسة مقصودة كانت تهدف إلى تدمير المساجد، وذلك في نطاق سياسة محو القرى والبلدات العربية التي بقيت فارغة إثر نكبة 1948، وما رافقها من عمليات تهجير وتطهير عرقية. وبناء على ذلك، من بين 160 مسجدًا كانت في القرى الفلسطينية التي شملها اتفاق الهدنة (1949)، وبقيت تحت سيطرة إسرائيل، لم يظل سوى أقل من 40 مسجدًا، وفقًا لادعاء هذا التقرير، علمًا أن الأرقام الحقيقية للمساجد التي تمّ تدميرها أكبر كثيرًا. غير أن الأمر الأهم من هذه الأرقام، على أهميتها الفائقة، بالنسبة لما نحاول أن نسبر غوره، أن ذلك كله ترافق مع انعدام أي توثيق إسرائيلي لعمليات التدمير الواسعة هذه، اللهم باستثناء توثيق يتيم لعملية تفجير طاولت “مشهد النبيّ حسين” في مدينة المجدل، التي تقع بالقرب من مدينة تسمى “أشكلون” في الوقت الحالي، وهي عملية جرى تنفيذها في يوليو/ تموز 1950. ويؤكد هذا التوثيق الإسرائيليّ أن تفجير ذلك “المشهد المقدّس” كان عملا مقصودا، وكان جزءًا من عملية أوسع في تلك المنطقة على وجه التحديد، شملت تدمير مسجدين آخرين على الأقل، واحد في يبنا والآخر في أسدود. كما يتبيّن أن المسؤول المباشر عن عمليات التدمير هذه هو الجنرال موشيه ديان الذي كان يشغل منصب قائد الجبهة العسكرية الإسرائيلية الجنوبية في ذلك الوقت.
في واقع الأمر، شكّل هذا التوثيق انحرافًا عن نهج إسرائيلي عام اتّبع في ذلك الوقت، وفقًا لتعليماتٍ صارمة صادرة عن قيادة الجيش الإسرائيلي. ونجم التوثيق عن عملية تبادل رسائل بين رئيس “دائرة الآثار الإسرائيلية”، وهي أول صيغة لما تسمى حاليًا “سلطة الآثار الإسرائيلية”، ويدعى شموئيل يافين، الذي يصفه التحقيق الصحافي بأنه “رجل علم” أكثر من كونه “نصيرًا لحقوق العرب”، وبين قيادة الجيش الإسرائيلي بشأن مصير الموقع المذكور. وكانت إحدى هذه الرسائل متعلقةً بما حدث في المجدل على وجه التحديد، وتضمّنت احتجاجًا إداريًا على تفجير الموقع المقدّس.
ويُكمّل جهد الحفاظ على التراث المبني مشروع جمعية الثقافة العربية بشأن استنهاض كل ما يمكن أن يكون رديفًا للتاريخ، وتعضيدًا للذاكرة الفلسطينية الجماعية من الماضي، الذي ما زالت محاولات التخلّص منه إسرائيليًا تتواتر.