أهم ما في قرار الرئيس محمود عباس تأجيل الانتخابات الى أن تمتنع إسرائيل عن وضع العراقيل أمام إجرائها بالقدس ترشيحا ً وانتخابا ً ودعاية انتخابية اسوة بسائر أنحاء الأراضي الفلسطينية هو أنه يؤسس لمبدأ " لا انتخابات بدون القدس " ويجعله ملزما ً لمن يأتي من بعده. وهذا الشعار مهما بدا براقا ً إلا أن بريقه الحقيقي هو أنه أصبح قيدا ً على الرئيس نفسه وعلى من سيأتي من بعده سواء فيما يتعلق بالإنتخابات التشريعية أو الرئاسية.
وفي ظل استمرار التطرف اليميني في المجتمع الاسرائيلي وهيمنة اليمين المتطرف على الحكم فإن بالإمكان القول بأن الأراضي الفلسطينية لن تشهد أية انتخابات مستقبلا ً طالما ظلت موازين القوى الحالية هي المسيطرة على المشهد الاسرائيلي ، ولا يُرى في الأفق القريب ما يشير الى أنها ستتغير لصالحنا ما لم نبادر نحن الى فعل ذلك. ولذا فبالإمكان القول : لا انتخابات بعد اليوم.
ولكي لا يُساء فهمي فإنني أقول وبكل وضوح بأنه لا معنى للانتخابات ولا حتى للدولة الفلسطينية بدون القدس. وأقول في نفس الوقت بأن علينا من أجل استشراق وسائل العمل للمستقبل أن نستعيد في الذاكرة أحداث الماضي.
لقد فوجئنا هنا في الأراضي المحتلة باتفاق أوسلو (إعلان المباديء) ولم يكن لنا رأي أو مشورة فيه وقد حمل في طياته عددا ً من الأخطاء القاتلة الكفيلة بفشله ، وكان من بينها قبول تأجيل المفاوضات حول القدس الى ما يسمى بمفاوضات الوضع النهائي دون اشتراط تجميد الوضع القائم بالقدس الى حين الاتفاق بشأنها ، وهو نفس الخطأ الذي ارتكب بشأن الاستيطان مما أتاح لإسرائيل العمل الحثيث الدؤوب والدخول في سباق مع الزمن لتغيير الوضع القائم بالقدس وسائر الأراضي المحتلة من خلال استمرار وتكثيف الأنشطة الاستيطانية. ثم تلا ذلك الخطأ في الملحق الثاني لاتفاق القاهره (أوسلو-2) بقبول إجراء انتخابات صورية بالقدس من خلال صناديق إقتراع توضع في عدد محدود ورمزي من مراكز البريد بالقدس يتوجه اليها عدد محدود من المقدسيين باعتبارهم أجانب يقيمون بالقدس يصوتون في انتخابات لبلد أجنبي بينما يكون التصويت الحقيقي في صناديق توضع بالضواحي حول القدس. ثم ها نحن اليوم حتى التصويت كأجانب بالقدس لم يعد متاحا لنا.
ويبدو أننا اليوم أمام محاولة لتصحيح الخطأ الذي ارتكب أصلا في اتفاق أوسلو ولكن ليس من خلال محاولة تغيير جذري في موازين القوى وإعادة فتح تلك الاتفاقيات للتفاوض وإنما فقط من خلال تسجيل موقف بأن لا انتخابات بدون القدس.
لقد أثبتت ردود الفعل الدولية على القرار الفلسطيني بتأجيل الانتخابات عقم وعجز المجتمع الدولي عن حمل اسرائيل على تنفيذ التزاماتها بموجب اتفاق القاهرة وأننا أمام حالة جديدة تتلخص في الغاء مفهوم الانتخابات من الحياة السياسية الفلسطينية فلا انتخابات للتشريعي ولا انتخابات للرئاسة. ولا يبقى امامنا سوى احتمالين:
الأول هو انتفاضة شعبية بكل الوسائل المتاحة على الصعيدين المحلي والدولي يقودها الرئيس عباس وحركة فتح وبمشاركة كافة القوى الوطنية والإسلامية لتغيير موازين القوى وحمل إسرائيل بالقوة على التخلي عن غطرستها وترك الشعب الفلسطيني يمارس حقه بحياة ديمقراطية وحكم رشيد في القدس والضفة وقطاع غزة على حد سواء، فهل هذا ممكن ؟
وإذا لم يكن الاحتمال الأول ممكنا فالاحتمال الثاني هو إننا أمام طريق مسدود يعني نهاية السلطة وانهيار كل ما تمخض عنها بانتهاء عهد الرئيس عباس . فالمنطق الذي يقول لا انتخابات بدون القدس ينسحب أيضا ً على انتخابات الرئاسة إذا ما شغر موقع الرئيس عباس ، وبالتالي لا انتخابات رئاسية . ولا أرى وسيلة ديمقراطية لاختيار خلف له ينال الاجماع الوطني ، لا سيما وأننا أمام تعقيدات سياسية فلسطينية داخلية وأمام حالة مستمرة من تقويض حياة السلطة الفلسطينية وقضم صلاحياتها وأمام استمرار العمل الاستيطاني الذي لم يبق مكانا ً ولا حيزا ً لإقامة أي كيان فلسطيني أيا ً كانت تسميته.
إلغاء مفهوم الانتخابات البرلمانية والرئاسية من الحياة السياسية الفلسطينية يؤسس لحالة انهيار لكافة المؤسسات والأجهزة الفلسطينية حال اختفاء الرئيس عباس من المشهد السياسي ، وستقوم على أشلاء حالة الانهيار حالة من الفوضى وستبرز من تحت ركامها وجوه رموز منتفعة من الوضع بشكل روابط القرى التي أسقطناها نحن هنا في الأراضي المحتلة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
فهل من أجل ذلك سقط آلاف الشهداء خلال السنين الطويلة من النضال الوطني التحرري الفلسطيني ؟ وهل من أجل ذلك كان مئات الآلاف من الأسرى الذين أمضى بعضهم عشرات السنين في الأسر وما زال يرزح الكثير في الأغلال ؟ هل من أجل ذلك دفعنا الثمن ؟ وهل يستحق شعبنا تلك النتيجة بعد عقود طويلة من البذل والعطاء والتضحية ؟
كلا وألف ألف كلا. إن على من يريد أن يصحح الأخطاء التي ارتكبت بالفعل لا بالقول أن يشمر عن سواعده ويستنهض الهمم ويوظف الطاقات والعقول الشابة للعمل. فتغيير موازين القوى لا يتم من خلال استجداء المجتمع الدولي وإنما من خلال فرض احترامنا على المجتمع الدولي وفي مقدمته بعض دول الجوار التي تطاولت كثيرا ً على شعبنا وتمادت في الإساءة لتاريخه وتضحياته ، وسارت في ركب الدعاية الصهيونية التي تقوم على الكذب وتزييف التاريخ ، أولئك الذين يخافون ولا يستحيون.