تستوقفنا اليوم حادثة اعتداء شرطي من حماس، بالضرب والشتائم، على صبيّة في غزة لأنها سافرة. ولا يعنينا ذلك الشخص، ولا جماعته، إلا بقدر ما يمثّلان وسيلة إيضاح لشيء أعم وأشمل هو العنف ضد النساء، والذي غالباً ما يُساء فهمه ويُشوّه، حتى وإن حسنت النوايا.
والواقع، أن قدراً كبيراً من سوء الفهم ينجم عن الفشل في مقاربة الظاهرة المعنية بلغة ومفاهيم ومناهج العلوم الاجتماعية. فالمقاربات الأخلاقية والإنسانوية، بما تعني من لغة، ودلالات، تكرّس الفشل.
المسألة ليست في مناشدة «الإنساني» في الإنسان، ولا في تأويل نصوص دينية بطرق مختلفة، بل في السياسة والمجتمع.
فإذا قيل، مثلاً، إن ذلك الشخص أمسك غصناً وضرب به الصبية، فإن الدلالة الفالوسية للغصن تتجاوز ما ذكرنا من مسائل ومقاربات لتأخذنا، فعلاً، لا إلى سياق مختلف وحسب، بل وإلى ما يستدعي ضرورة التجاوز، أيضاً، والتي لا تحتاج إلى مسوّغ أبلغ مما جاء في كلام الصبية نفسها: «قام بضربي عدة ضربات على جسمي في أماكن حساسة اعتذر عن نشرها».
ومن الواضح، وما لا يثير الدهشة، أن العنف الجسدي كان تتويجاً لعنف لفظي سبقه: «أثناء تعريفي عن نفسي كصحافية بدأ النقاش يذهب باتجاه شكلي وعدم ارتدائي الحجاب، أي أن الشخص كان يحاول إسكاتي بأسلوب أبعد ما يكون عن الأدب كلما حاولت التعريف عن نفسي، وظل يوجه لي جملا من نوع إنني مرتدة، ولا انتمي لهم، ولا يحق لي الكلام، ولا يشرفه مناقشتي، وعليّ أن أخرس».
ولسنا، هنا، أمام مشهد يمكن تخيّله، ويكاد يكون بصرياً تماماً بلغة السينما، وحسب، بل ويمكن الادعاء أنه يوفّر سيناريو يكاد يكون مثالياً، أيضاً، بالنسبة للمختصين في علوم الأدب واللغة، وتحليل الخطاب. فالكلمة المفتاحية في النص (البصري واللغوي في آن) هي الخرس.
تفتح مفردة الخرس الحقل الدلالي للنص، وتُمكّن الناظر من اكتشاف صلات عضوية بين مكوّنات مختلفة تتجلى في صورة أضداد: اللسان والسفور، الحجاب والجسد الصامت. على أي حال، ليس ثمة ما هو أسوأ من امرأة تملك لساناً يثير كل هذا القدر من الضوضاء، وما من وسيلة لإخراس جسد نطق (السفور كلام)، واستعادة الجسد الصامت (الجسد الحمدلي بلغة عبد الكبير الخطيبي) أشد نجاعة من الضرب: كي أجساد المحكومين بوشم السلطة، بلغة ميشيل فوكو.
على أي حال، هذا ليس موضوعنا. كل ما في الأمر أن في المفردات البصرية والنصيّة للحادثة المعنية ما يحرض على التفكير في، والكلام عن، ظاهرة العنف ضد النساء بطريقة مختلفة.
ففي معرض التعقيب على الحادثة نفسها، سبق وأشرتُ إلى أمرين: كونها تدل على ذكورة قَلِقة، وعلى ما يثير رِهاب الخصاء من ذعر لم يعد دفيناً، ولا في الإمكان كبته. وقد صار من الواجب، الآن، التوسّع قليلاً في الكلام عن الأمرين في معالجة نرجو أن تمتد لعدة أسابيع.
فلنعد، بداية، إلى السيناريو البصري والنصي للحادثة. فمن أقرب دلالاته الانهيار المُطلق لموازين القوى بين رجل مسلّح ببندقية وعصا، وشابة مسلّحة بكاميرا ولسانها، لكليهما في منظومة القيم والقوانين السائدة مكانة محفوظة في التراتبية الاجتماعية والأخلاقية، ناهيك عن حقيقة أن الأوّل يمثل عدداً من السلطات في آن: سلطة الأولوية في تراتبية تنص عليها قيم سائدة وقوانين، وسلطة ممثل وحامي القيم السائدة والقوانين، وسلطة القوّة البدنية، المعززة بالبندقية والعصا، وسلطة ممثل ومُجسِّد «السلطة» السياسية، أو «ولي الأمر»، وسلطة «المحارب» بوصفها أعلى مراتب الذكورة.
في كل ما تقدّم ما يضع الصبية في مرتبة دنيا في كل حال من الأحوال، وبكل مقياس من المقاييس، فما الذي أخاف الذكر إلى حد جعل من الضرب مخرجاً وحيداً للتعبير عن اليأس مِنْ، أو الفشل في، ممارسة اقتصاد العنف، على الرغم مما تراكم في سلطاته فرادى ومجتمعة من عنف أكيد ومضمون؟
ثمة غواية حقيقية، هنا، تتمثل في القفز إلى جواب من نوع الكلام عن ذكورة قَلِقة تعاني من الهشاشة، ولا تثق بنفسها. وهذا جواب صحيح، بقدر ما أرى. ولكن طريقة الوصول إلى خلاصة بعينها، في هذا الشأن أو غيره، لا تقل أهمية عن الخلاصة نفسها، بل وتصلح شهادة لها وعليها، بقدر ما يتجلى فيها من توليد واختبار المعرفة، ناهيك عن احتمال الإمتاع والمؤانسة.
لذا، فلنقل إن الذكورة، كما الأنوثة، ليست معطيات مسبقة، ولا حقائق تاريخية أو اجتماعية ثابتة، بل هي منتجات ثقافية مُتغيّرة، في حالة حراك دائم، تختلف من مكان إلى آخر، وما بين زمن وآخر في المكان نفسه. وكما هو الشأن في حال كل المنتجات الثقافية فإن جذرها مادي، تماماً، أي في الأرض، ويتموضع في سياق منظومة هائلة ومحكمة من المنتجات وثيقة الصلة بفكرة السلطة، والإدارة السياسية للمجتمع، والتراتبية الاجتماعية، وتوليد وامتلاك وتوزيع الثروة، منذ العصر الحجري حتى الآن.
وطالما أن في موضوع العنف ضد النساء ما يتجاوز وسيلة الإيضاح، والحادثة نفسها، فلنحاول أن نرى هذا كله على خلفية النسق العربي ـ الإسلامي في معالجة لاحقة.